بين مناورة الكنيست ومؤتمر نيويورك: ما زال حل الدولتين على قيد الحياة.

نبض البلد -

حاتم النعيمات

بينما تتعقد الأمور في غزة أمام مجاعة ووضع إنساني كارثي، وعلى وقع انسحاب الأمريكيين والإسرائيليين من مفاوضات الدوحة بسبب عدم جدية حماس على حد وصفهم، ومع إقرار اقتراح "غير مُلزم” من الكنيست بضم أجزاء من الضفة الغربية، تظهر تحركات قد تبدو خارج سياق المشهد القاتم، لكنها حقيقية، تتمثل في الإعلان عن المؤتمر الدولي لتسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية وتنفيذ حل الدولتين.

الإعلان عن هذا المؤتمر الذي يُعقد في نيويورك اليوم وغدًا، بحضور دولي واسع وبواقع عربي إيجابي وجديد وباندفاع أوروبي قوي، يعني أن جدول أعمال المؤتمر يتجاوز مجرد الكلام والتصريحات، ليضع على الطاولة ملفات كانت تعتبر محرّمة، أبرزها: الاعتراف بدولة فلسطينية، وتنفيذ حل الدولتين كما هو ظاهر في العنوان.

هذه المرة، أوروبا تضع ثقلها بشكل واضح، فالتصريحات الصادرة عن الدول الرئيسية كألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا قبيل المؤتمر غير معهودة، وتفيد بدور أوروبي يبتعد أكثر عن الفلك الأمريكي، وعلى وقع "صحوة" لأهمية المصالح الأوروبية مع المنطقة العربية بالأخص جنوب المتوسط بعيدًا عن تأثير واشنطن. وعلى ذكر واشنطن، فعلى الرغم من رفضها حضور المؤتمر، إلا أنها لن تكون بعيدة عن استخدام مخرجاته في خلق تسوية نهائية وعادلة للقضية؛ فالعقل الأمريكي يدرك أن الاضطراب في المنطقة لن يكون الوضع النهائي مهما كان، وذلك لعدة أسباب، أهمها أن أمن إسرائيل لن يتحقق بالقوة ولا بتجاهل رغبات دول العالم.

الظروف اليوم مختلفة رغم التشاؤم؛ فإسرائيل خسرت الكثير من مصداقيتها بسبب إجرامها وتمردها على القانون الدولي خصوصًا بعد السابع من أكتوبر، والمنطقة العربية تتحول بشكل سريع إلى منطقة خالية من المليشيات تسود فيها بيئة (دولة مقابل دولة) بدلًا من (دولة مقابل مليشيا)، ناهيك عن أن هناك افتراقًا جزئيًا بين أوروبا الولايات المتحدة نتيجة لتذبذب الأخيرة وانخفاض "ائتمانيتها السياسية” في عدة ملفات أهمها دعم أوكرانيا، ومن خلال وضع ملف تمويل الناتو على طاولة الابتزاز الترامبية. لذلك فإنني أعتقد أن مؤتمر نيويورك يُعقد في بيئة غير مسبوقة.

المؤتمر يُعقد برئاسة المملكة العربية السعودية الشقيقة وفرنسا، وقد يكون مقدمة لاعترافات أوروبية بالدولة الفلسطينية والتي تضعها السعودية كشرط إساسي للتطبيع مع إسرائيل. لذلك فالمؤتمر سيضمن بالحد الأدنى أن يصبح قرار ضم الضفة (المتوقع) من قبل إسرائيل قرارًا أحاديًا بلا معنى، تمامًا كقرار ضم الجولان الذي كان شكليًا ولم يحقق شيئًا سوى رفع شعبية نتنياهو لدى جمهوره اليميني آنذاك. وكنتيجة لذلك، ستصبح الدولة الفلسطينية أقرب للتطبيق مما يعتقد البعض بغض النظر عن فشل أو نجاح المؤتمر، فإنه في الحالتين يُعيد الاعتراف بوجود مشروع سياسي اسمه الدولة الفلسطينية، ويضع تل أبيب تحت المجهر الدولي من جديد، لا بوصفها ضحية، بل باعتبارها الطرف الرافض لإنهاء الاحتلال.

الدور الأردني مهم جدًا في هذا المشروع، فالتحركات المستمرة للدبلوماسية الأردنية بقيادة جلالة الملك استطاعت تثبيت الوصفة الوحيدة لإنهاء الصراع والمتمثلة بحل الدولتين، ناهيك عن أن الضفة الغربية لا زالت توصف قانونيًا ودوليًا لغاية اليوم "بالمحتلة”، لأن الجيش الأردني حررها في 1948 وجعلها نواة للدولة الفلسطينية المنشودة، والأردن أيضًا، ثبّت الوصاية الهاشمية لتقف مانعًا أمام تنفيذ مخططات تهويد الأماكن المقدسة. وقد لا يكون الصوت الأردني الأعلى في أروقة المؤتمر، لكن الأردنيين هم الأكثر فهمًا لتضاريس النزاع، والوحيدون الذين يتعاملون مع قضية فلسطين كجزء من الأمن القومي والهوية السياسية الأردنية. لذلك، فإن أي اعتراف غربي بالدولة الفلسطينية سيشكل أيضًا انتصارًا للأردن.

يسعى البعض هنا بدهاء إلى تسويق موت حل الدولتين لأسباب تتعلق بطموحات الوطن البديل والتوطين، ولهؤلاء يجب قول التالي: إن الإجراءات الأحادية غير القانونية التي تتخذها دولة الاحتلال الإسرائيلي من قضمٍ للأرض وبناءٍ للمستوطنات لن تقتل الدولة الفلسطينية طالما أنها لم تحصل على الاعتراف العالمي، وإن إسرائيل ذاتها لن تستمر في إدارة شؤونها وسط الاضطرابات مهما كان، والأغلب أن حقبة نتنياهو ستنتهي، وستتبعها مراجعات داخلية عميقة وجدية لما حدث، دعك من أن السياسة الأمريكية لم تعد مرهونة للقرار الإسرائيلي كما كان في السابق، وقد ظهر ذلك من خلال تناشزات واضحة وسلوكات أمريكية تنبيء بمرحلة جديدة عنوانها أن لواشنطن "مصالحها الخاصة" المنفصلة عن مصالح إسرائيل، تمامًا كما حدث في اليمن وإيران، إذ تصرفت إدارة ترامب حسب المصلحة الأمريكية؛ فلم تتورط حرب مع الدولتين واكتفت بعمليات وإسناد لوجستي لإسرائيل.

ليس كل مل تقوله إسرائيل سيحدث، فمثلًا، إسرائيل تتحدث كثيرًا عن ضم الضفة ولا تفعل بالمعنى العملي، مع أن الفرصة سانحة؛ فقد أضحت حكومة نتنياهو في حلٍ من القانون الدولي والأخلاق والشرف، مع حصولها على دعم أمريكي كبير، ومع ذلك لم تقم بالضم بشكل رسمي، بل لجأت لقرار معنوي من قبل الكنيست وبعض التصريحات هنا وهناك، وهذا بطبيعة الحال لا يعدو كونه مناورة سياسية لتحسين شروط التفاوض المستقبلية على دولة فلسطينية، أي أن اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفًا اليوم يدرك حتمية المفاوضات ويتهيأ لها بطريقته.

لا أقلل من خطر الضم، ولا من سلوك إسرائيل بشكل عام، لكني أحاول ما استطعت وضع الأمور في نصابها الحقيقي دون مبالغة.