نبض البلد - حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في الزمن الذي تُدار فيه الدول بالشبكات، وتُتخذ فيه القرارات بناءً على البيانات، بات الذكاء الاصطناعي حليفًا أساسيًا للحكومات في جميع دول العالم التي تطمح لتقديم خدمات أكثر كفاءة، وقرارات أكثر دقة، وإدارة أكثر استباقية. لكنه في ذات الوقت، أضحى اختبارًا أخلاقيًا عميقًا لمدى احترامها لخصوصية المواطنين، وحدود التدخل في حياتهم. فهل يمكن الجمع بين حكومة ذكية، ومواطن حر؟ هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يخدمنا دون أن يتجاوزنا؟
لطالما كان مفهوم "الخصوصية" أحد أعمدة الكرامة الإنسانية. أن يشعر الإنسان بأن له مساحة لا تُخترق، أن يعلم أن ما يشاركه يُستخدم لما هو في مصلحته، لا لرقابته أو التحكم به. ومع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي في التطبيقات الحكومية، من رصد المخالفات المرورية إلى تحليل السلوك الضريبي، ومن التنبؤ بالجرائم إلى تقييم استحقاقات الدعم، تزداد التساؤلات: من يملك هذه البيانات؟ ومن يُقرر كيفية استخدامها؟ والأهم، هل يعرف المواطن كيف تُستخدم معلوماته؟ وهل يستطيع الاعتراض؟
ليست المشكلة في التقنية، بل في غياب الشفافية والحوكمة. فالذكاء الاصطناعي لا يقرر من تلقاء نفسه أن يخترق الخصوصية، بل يُبرمج ليفعل ما نطلبه منه. وإذا غابت النوايا النزيهة، أو غلبت النظرة الأمنية على نظرة الخدمة، يتحول الذكاء الاصطناعي من نعمة إلى كابوس رقمي، يزرع الخوف بدل الثقة، ويعمّق فجوة المواطنة بدل أن يُجسرها.
ولكن يمكن أن يكون العكس صحيحًا تمامًا. يمكن للحكومات أن تستخدم الذكاء الاصطناعي في رفع كفاءة الخدمات دون انتهاك الخصوصية. يمكن تصميم أنظمة ذكية تضمن عدم تعقب الأفراد، بل تحليل الأنماط العامة فقط. يمكن إخفاء الهويات الشخصية، وتفعيل مبدأ "أقل قدر ممكن من البيانات"، بحيث لا يُجمع من المواطن إلا ما هو ضروري. بل ويمكن، بل يجب، إشراك المواطنين أنفسهم في فهم كيف تعمل هذه الأنظمة، وما الحقوق التي يملكونها تجاهها.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل هو بنية ثقافية وأخلاقية. فإن صممناه ليخدم الإنسان، سيخدمه. وإن صممناه ليُراقبه، فسيتقن ذلك بلا رحمة. التكنولوجيا لا تُخطئ لأنها سيئة، بل لأنها بلا ضمير. والضمير في هذا العصر، يجب أن يكون مكتوبًا في خوارزميات تحترم الخصوصية كحق لا يُمس، لا كخيار يُتنازل عنه.
في العالم العربي، ما زالت السياسات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والخصوصية في طور التشكل. وهذا يمنحنا فرصة نادرة: أن نرسم الطريق من البداية بشكل صحيح. أن نُقر تشريعات توازن بين الابتكار وحماية الحقوق، بين أمن الدولة وحرية الأفراد. أن نُدرّس الجيل الجديد أن الذكاء الاصطناعي ليس شيطانا، ولا ملاكًا، بل أداة ينبغي أن يُحسن استخدامها.
الجيل القادم من الحكومات في العالم سيكون رقميًا حتمًا. هذا ليس خيارًا، بل واقع. لكن هل سيكون إنسانيًا؟ هذا هو السؤال الحقيقي. فإذا لم نُضمن القيم في قلب التقنية، سنفقد التقنية والإنسان معًا. وإذا لم تُبنَ الأنظمة الذكية على الثقة، فإن المواطن سيتحوّل إلى رقم في ملف، أو هدف في عدسة، أو صوتٍ يخشى أن يُسجَّل عليه.
تخيل حكومة ذكية فعلاً، تُنجز معاملتك قبل أن تطلبها، تُنذرك قبل أن تقع في خطأ، تُوجهك دون أن تُرهبك، وتُراعي خصوصيتك وكأنها مقدسة لا تُمس. هذه ليست مدينة فاضلة، بل ممكنة تمامًا، إن اجتمعت النية الصادقة مع التكنولوجيا النظيفة.
نعم، يمكن أن يعيش الذكاء الاصطناعي في قلب الحكومات دون أن يطعن خصوصية المواطنين. يمكن أن يكون عينًا ترى للمصلحة، لا للتجسس، وعقلاً يُفكر للنهضة، لا للسيطرة. وكل هذا يبدأ من إدراك بسيط لكنه عظيم: أننا لا نُبرمج آلات فقط، بل نُعيد برمجة علاقتنا بالسلطة، وبالإنسان، وبالمستقبل نفسه.
وحين ننجح في هذا، سيصبح الذكاء الاصطناعي مرآة لحكومة تعرف أن التقنية لا تعني التخلي عن المبادئ، بل أن التكنولوجيا الحقيقية، تبدأ من القيم.