حين تُعلّق الأرواح على ورقة التوجيهي كعبورٍ جماعي لا يُغفر فيه السقوط

نبض البلد -

من اقوال جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم
"إن الاستثمار الحقيقي هو في الإنسان الأردني المتعلّم، القادر على التفكير والنقد، وليس مجرد الحفظ والتلقين"

كأنهم خرجوا من بئر سحيق، لا قاع له إلا الانتظار، ولا جدران تحيطه إلا رجاء الأمهات، ولا سُلّم فيه إلا وهم الأمل المتعثر… خرجوا من امتحان التوجيهي لا كما يخرج الناس من امتحاناتهم، بل كما ينجو الغريق من ماء لا يُرى، ماءٍ يغمر القلب لا الجسد، ويثقل الخطى دون أن تبتل الأرض.

في الشوارع، انفجرت مشاهد الفرح. هتافات، طبول، سيارات تصدح بأغاني النصر، لكنها لا تتجه إلى نهاية، بل إلى بداية أكثر غموضاً. بين كل زغرودة، ثمة قلب يخفق قلقاً، ويد ترتجف من المجهول، وعين تخشى الغد كأنه وحش نائم. من قال إنهم احتفلوا بالنجاح؟ لعلها طقوس فرح مؤقت، أو احتفال مذعور، كأنهم يسرقون لحظة بهجة من فم الغيب، في خوف أن يتكلم الغد بما لا يُحب.

وفي مداخل المدارس، رأينا من بكى، من صمت، من تنفّس كأنه خرج من موت بطيء. ذلك الصمت لم يكن هدوءاً، بل رسالة مكتومة. لم نقرأه في ملامحهم، لم نفهمه من نظراتهم. فهل هو رضا؟ أم صدمة؟ أم استراحة محارب لا يدري إن كان عاد منتصراً أم مهزوماً؟

انتهاء الامتحانات لم يكن خاتمة. إنه بداية أسئلة أكبر: أين سنذهب؟ من سنكون؟ هل نكمل الطريق أم نعيد رسمه؟ في بيوت الأردنيين، التوجيهي لم يكن يوماً امتحاناً دراسياً فحسب، بل عقداً اجتماعياً غير معلن. طقس عبور يتكرر، باب عبودية باسم "المستقبل"، ميزان للكرامة، وشهادة حياة أو إعلان نكسة. في جيناتنا المجتمعية، هذا الامتحان وُرث كما تُورّث الطقوس والخرافات، وظلّ قائماً رغم وعود الإصلاح التي لا تصمد طويلاً أمام الخوف المزمن.

وفي الخلفية، تمر السياسة. وزير يغادر وآخر يُجدد له، تسريبات، ملامح تعديل، مقاهٍ تنبض بالأحاديث، وقرارات قد لا تحمل تغييراً سوى بالأسماء. فهل التوجيهي سيكون في قلب التحوّل؟ أم سيظل في هامش الانتظار؟

أما الاقتصاد، فيُمسك برقاب الأسر. دروس خصوصية أنهكت الجيوب، كتب ومراكز تدريب، جامعات خاصة تفترش الأحلام بأسعارٍ لا ترحم، وأبناء يُقدّمون كمشاريع ربح، لا كقلوب تبحث عن ذاتها.

وفي خضم هذا، تسأل الثقافة: كيف نبني عقلاً حراً في وطنٍ يُربّي أبناءه على أن مصيرهم يُكتب في ورقة واحدة؟ كيف نعلّمهم حب المعرفة ونحن نربطها بالرعب والتصنيف والقلق الجماعي؟

ولعلّ ما يجعل التوجيهي أكثر من امتحان، هو أن المجتمع بأكمله يُمتحَن معه. الأمهات يُختبرن في صبرهن، الآباء في قدرتهم على الكتمان، الجيران في مراعاة الضجيج، الأقارب في توقيت السؤال. كأننا في موسم وطنيّ للصمت والانتظار، تترقّب فيه البيوت علامات أبنائها كما تترقب الأرض المطر. لا أحد خارج الدائرة، حتى من تجاوزوا عمر التوجيهي، يظل في أعماقهم صدى ذلك القلق القديم، لأن التجربة الأردنية لا تُنسى، بل تعيش في الذاكرة كمقطع لا يُمحى من نشيد طويل اسمه "المستقبل".

إننا لا نعلّم أبناءنا أن الامتحان محطة، بل نربّيهم على أنه مصير. نربط المجد بالشهادة، والفشل بالورقة، وننسى أن الأوطان لا تُبنى بمن تفوقوا فحسب، بل بمن فشلوا ثم نهضوا. من قال إن العثرات لا تصنع الرجال؟ ومن أوهمنا أن سطرًا أحمر في ورقة يعني أن الحياة توقفت؟ لقد علّمتنا الحياة أن من سقطوا في أول الطريق، هم أحيانًا من صاغوا خرائطهم الخاصة، وصاروا أدلّاءً لغيرهم. فربّ ناجح لم يعرف من الحياة سوى الورقة، وربّ ساقطٍ أنشأ فكرة غيرت وجه الزمان.

وأقول هنا أنا:
في وجوههم فرح لا يُفسر،
وفي أعينهم خوف لا يُكذب،
وفي صدورهم رجفة تقول أكثر مما تُخفي،
وما بين امتحان وانتهاء، تُروى حكاية وطن بأكمله.

واقول من شعري:

قلبي على أبنائي الممتحنين
بين الرجاء وخوف يوم قادم
صمت الذين تكسرت أقلامهم
يحكي وجيع الحلم غير النادم

نبكي ونضحك في الوجوه كأننا
نخشى الفراغ وقسوة المتلاوم
يا ليت في وطني يكون نجاحنا
باباً لعقل لا لقيد دائم

بقلمي
 د. عمّار محمد الرجوب