الدكتور هيثم الحسنات
أهمية النقل العام في المدن الحديثة
تشكل منظومة النقل العام شريانًا حيويًا في المدن المعاصرة، لما توفره من فوائد اقتصادية واجتماعية. فقد أثبتت الدراسات أن الانتقال بواسطة حافلات وقطارات عامّة يستهلك طاقة أقل وينتج ملوثات أقل بكثير من الاعتماد الكلّي على السيارات الخاصة. كما يساعد النقل العام في تخفيف الضغط على البنية التحتية الحكومية، مما يحد من الإنفاق الضخم على توسيع الطرق والجسور. وفي كثير من الدول، تؤدي زيادة استخدام النقل العام إلى تقليص فاتورة استيراد الوقود؛ فخفض عدد السيارات الخاصة على الطرق ينعكس إيجابًا على حسابات الطاقة الوطنية. بالإضافة لذلك، يُحسِّن النقل العام من كفاءة الاقتصاد ويعزّز الإنتاجية؛ إذ توفر مواصلات عالية السعة أوقات سفر أقل للموظفين والعمال، ما يزيد من فرص الوصول إلى أماكن العمل بكفاءة. كذلك تساهم وسائل النقل الجماعي في خفض الازدحام المروري؛ فعندما يلجأ الكثير من الناس إلى الحافلات والقطارات بدلًا من سياراتهم، تنخفض حدة الزحام على الشوارع، وتتحسّن سرعة وسلاسة حركة المرور.
واقع النقل العام في عمّان
تعاني عمّان من اعتماد كبير على المركبات الخاصة، حيث تشير بيانات البنك الدولي إلى أن حوالي 33% من السكان يستخدمون سياراتهم الخاصة للتنقل اليومي مقابل 14% فقط يستخدمون وسائل النقل العام. ويزداد الوضع تعقيدًا بزيادة أعداد المركبات المسجلة وزحف العمران دون تخطيط متكامل. ونتيجة لذلك، تشهد شوارع العاصمة ازدحامًا خانقًا يعد من الأعلى في المنطقة، مسبّبًا خسائر اقتصادية جسيمة. فقد كشف تقرير للبنك الدولي أن خسائر التأخير وهدر الوقود الناتجة عن الازدحام في عمان تصل إلى 1.5 مليار دينار سنويًا، أي نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي للمدينة.
الفوائد الاجتماعية والبيئية للنقل العام الفعال
تحمل منظومة نقل عام متكاملة فوائد اجتماعية وبيئية كبيرة. فعلى الصعيد البيئي، يقلل الانتقال الجماعي من إجمالي الكربون المنبعث يوميًا، إذ يستبدل العدد الكبير من السيارات على الطرق بحافلات تقلّ عددها من السفرات وتستهلك الوقود بشكل أكثر كفاءة. ووفق تقديرات، فإن السفر بالحافلات أو القطارات العامة ينتج نحو ثُلثي انبعاثات الطاقة مقارنة بالسيارات لنفس المسافة. وقد بينت تجربة إسطنبول على سبيل المثال أن حافلات المتروبوس السريعة نجحت في إزالة ما يقرب من 80 ألف سيارة من الشوارع يوميًا، مما حقق خفضًا فوريًا في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار نحو 623 طن يوميًا. وبذلك تسهم هذه الأنظمة في تحسين جودة الهواء والحفاظ على البيئة.
أمثلة عالمية ناجحة
تقدم مدن عديدة حول العالم دروسًا ملهمة في بناء أنظمة نقل عام متطورة. ففي إسطنبولعلى سبيل المثال، افتتحت السلطات خط المتروبوس السريع بطول 50 كلم عبر مضيق البوسفور، فخففت بذلك الضغط على الجسور الرئيسية. وقد صمم النظام لتقديم خدمة عالية الجودة تقلص زمن الرحلات وتتيح نقل كبير للركاب. ونتيجة لذلك، استعادت المركبات الخاصة سلاسة قيادة أعلى في شوارع المدينة بعد أن خُفّضت أوقات العبور بين جانبي المدينة من ثلاث ساعات بالسيارة إلى نصف ساعة بالحافلة، مع انخفاض كبير في الانبعاثات.
توصيات وأفكار مستقبلية
لحل أزمة النقل في عمّان يجب تبني حزمة من الإجراءات التنموية العملية. أولاً، توسيع شبكة الحافلات السريعة (BRT)بشكل ملحوظ ليشمل أغلب أحياء العاصمة، مع تخصيص مسارات حصرية لهذه الحافلات لضمان سرعة انسيابها. ثانياً، تكامل ذكي للنقل عبر استخدام تكنولوجيا المعلومات: يشمل ذلك تطبيقات حجز الركوب الذاتي(on-demand)، ونظام دفع موحد ذكي (بطاقة نقل موحدة) لتسهيل الانتقال بين وسائل مختلفة وزيادة اعتمادية الخدمة. ثالثاً، التخطيط العمراني يجب أن يصمم وفق نماذج التنمية المرتكزة على النقل(Transit-Oriented Development) بحيث تكون الأحياء والمجمعات السكنية والتجارية محورية حول محطات النقل العام، مما يعزز استخدامه ويخفض الحاجة للتنقل طويل المسافة. رابعاً، دراسة إقامة شبكة مترو مستقبلية قد تكون ضرورية على المدى البعيد، لربط المناطق ذات الكثافة السكانية العالية باتساع أكبر. وقد أوصى البنك الدولي بضخ استثمارات كافية في البنى التحتية للنقل المتكامل وتحديد أولوياتها ضمن الموارد المتاحة.
الخاتمة
في ظل النمو السكاني والتوسع العمراني المتواصل، لا يمكن لعمان أن تبقى أسيرة «ثقافة السيارة» وحدها. فالمدن الحديثة أثبتت أن خيارات النقل الذكية والمستدامة هي التي تصنع مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي. لذا يجب أن تكون تطوير منظومة النقل العام في عمّان أولوية تنموية حقيقية وليست رفاهية؛ فالتحوّل نحو حافلات سريعة متكاملة، وتخطيط حضري معقلن، وربط ذكي بين مختلف وسائل النقل، سيجعل العاصمة أكثر ارتياحًا وسيرًا، ويُنقذ ميزانيتها الوطنية من بذر الوقود والزمن الضائع. باختصار، مستقبل عمّان يعتمد على خيارات تنقل ذكية ومستدامة تضمن النمو الاقتصادي وحماية البيئة ورفاهية المواطنين.