مظلة للجميع أم لبعضهم؟

نبض البلد -
قراءة وتحليل لاستراتيجية الحماية الاجتماعية في الأردن من منظور ديمقراطي اجتماعي.
مقال بقلم المدرب والمحاضر بالتمكين السياسي: -فارس متروك شديفات 
في قلب كل مجتمع، يتردد سؤال جوهري: كيف نضمن حياة كريمة لجميع أفراده؟ في الأردن، يكتسب هذا السؤال أهمية متزايدة مع تفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية؛ من بطالة مرتفعة بين الشباب والنساء، إلى فقر مستمر وتكاليف معيشية متصاعدة، وفي مواجهة هذه الوقائع، تبرز الحاجة إلى منظومة حماية اجتماعية شاملة، تُجسّد ما يسمى بـ"مظلة الأمان".
ولعل من المناسب أن نوضح ان الحماية الاجتماعية هي مجموعة من السياسات والبرامج التي تهدف إلى تقليل المخاطر الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الأفراد والأسر، خاصة الفئات الضعيفة مثل الفقراء، وكبار السن، وذوي الإعاقة، والأطفال، وتهدف هذه البرامج إلى ضمان الحد الأدنى من مستوى المعيشة الجيدة، وتلبية الاحتياجات الأساسية للفئات الضعيفة خلال مراحل العمر المختلفة، وتعزيز العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.
من هذا المنطلق، أطلقت الحكومة الأردنية "الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية للأعوام 2025–2033"، ضمن رؤية تحديثية تسعى لبناء نظام متكامل ينطلق من حقوق الإنسان، ويرتكز على أربعة محاور: "كرامة" لتأمين الاحتياجات الأساسية، "تمكين" لتعزيز اندماج الفئات الضعيفة، "فرصة" لتوسيع الضمان الاجتماعي وتحسين بيئة العمل، و"صمود" لتعزيز الجاهزية في مواجهة الأزمات.
وفي ضوء ما سبق، فالديمقراطية الاجتماعية تقدّم تصورًا أعمق لمعنى الحماية: ليست مجرد مساعدات آنية، بل منظومة متكاملة تقوم على العدالة الاجتماعية، والتضامن الإنساني، والمساواة في الفرص، والحرية الفعلية المدعومة بضمانات اقتصادية واجتماعية، وتكمن قوة هذا النموذج (فالديمقراطية الاجتماعية) في ربط الكرامة الإنسانية بالحق في الأمن الاقتصادي، والتعليم، والصحة، وفرص العمل اللائق.
من هذا المنظور، تثير الاستراتيجية الأردنية أسئلة مشروعة: هل تعالج جذور المشكلات الاجتماعية فعلًا؟ هل تتناول نقص فرص العمل، وتفاوت المهارات، والفروقات الإقليمية، وعدم الإنصاف الهيكلي؟ وهل توفر حماية للفئات الأكثر هشاشة، مثل العاملين في القطاع غير الرسمي، الذين يشكلون شريحة واسعة ممن هم خارج نطاق الحماية الرسمية؟

لكن، ما الذي تعنيه هذه المحاور عمليًا؟ فالاستراتيجية يفترض بها ألا تكتفي برسم الإطار النظري، بل تسعى لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
فـ"كرامة" ليست مجرد دعم نقدي، بل وعدٌ بألا يُترك أي أردني في العراء الاقتصادي، أما "تمكين"، فهو بوابة الانتقال من تلقي المساعدة إلى المشاركة الفاعلة عبر التعليم الجيد، والرعاية الصحية المتاحة للجميع، وتمكين المرأة والشباب، وفي "فرصة"، تبدأ رحلة شمول العاملين في القطاعات غير الرسمية بالضمان الاجتماعي، وتُفتح أبواب جديدة لتحسين شروط العمل وتوفير بيئة أكثر إنصافًا، أما "صمود"، فهو استباق للأزمات، وتجهيز المجتمع بمنظومة استجابة متينة تحفظ الأمن الاجتماعي في مواجهة الجوائح أو الكوارث أو الأزمات الاقتصادية.
يحق لنا أن نتخيّل ونطالب وطنًا تكون فيه الحماية الاجتماعية حقًا لا منّة، والعدالة قاعدة لا استثناء، ووفق هذه الرؤية، تصبح الاستراتيجية فرصة تاريخية لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
 فبدلًا من أن تُقدَّم المساعدات كحلول إسعافية، تتحول الموارد إلى أدوات تمكين، تصنع الأمان وتبني الثقة، وتحفّز كل فرد على أن يكون شريكًا في التنمية لا مجرد متلقٍ للدعم، وهنا تكمن قوة الاستراتيجية إن أُحسن تطبيقها، وهنا يظهر جوهر الديمقراطية الاجتماعية: أن يشعر كل مواطن بالأمان في بيته، في عمله، في صحته، وفي شيخوخته. هذا ليس ترفًا، بل أساس لبناء مجتمع صامد، قادر على مواجهة المستقبل بثقة وعدالة.
ورغم ما تحمله الاستراتيجية من طموحات واعدة، إلا أن الطريق نحو تحقيق أهدافها من منظور ديمقراطي اجتماعي لا يخلو من التحديات، فالتنفيذ الواقعي وقياس الأثر الحقيقي على حياة الناس هو الامتحان الفاصل، فهل يمكن ترجمة هذه الخطط إلى تغييرات ملموسة يشعر بها كل مواطن، خصوصًا في ظل تعقيدات سوق العمل وتزايد أعداد العاملين في وظائف غير تقليدية؟
ثمّة فجوة ملحوظة أيضًا فيما يتعلق بآليات إعادة توزيع الثروة وفرض ضرائب تصاعدية، وهما ركنان أساسيان من أركان اقتصاد السوق الاجتماعي، لضمان الحد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء. فغياب هذه الآليات قد يُفقد الاستراتيجية بُعدها العادل، ويجعلها قاصرة عن بلوغ العدالة الاقتصادية المنشودة.
إضافة إلى ذلك، فإن حقوق العمال ودور النقابات العمالية لا تزال غامضة أو ضعيفة الحضور في خطاب الاستراتيجية، رغم أن تعزيز هذه الحقوق هو أساس تمكين المواطنين اقتصاديًّا، وضمان كرامتهم في سوق العمل، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.
تجدر الإشارة إلى أن هناك حاجة ملحّة إلى إجراءات داعمة، لتجاوز التحديات السابق ذكرها، من بينها: تعزيز برامج الحماية الشاملة التي تغطي جميع المواطنين، لا فقط الفئات الأشد فقرًا، وتفعيل ضرائب تصاعدية تعيد توزيع الثروة بعدالة، وإشراك النقابات في تصميم وتنفيذ السياسات الاجتماعية، وزيادة الإنفاق العام على التعليم والرعاية الصحية، واستهداف الفئات المهمشة بإجراءات عملية ومحددة، وتوسيع آليات المشاركة المجتمعية والحوار الاجتماعي في مراقبة الاستراتيجية.
إن الحماية الاجتماعية ليست ترفًا، بل حق أصيل ومكون أساسي في مشروع بناء دولة حديثة قائمة على المواطنة والمساواة، إنها السياج الذي يحول دون سقوط الأفراد في دوامات العوز واليأس، ويصنع الثقة بين الدولة والمجتمع.
بلا شك، تشكل الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية خطوة ضرورية وواعدة في المسار الإصلاحي الأردني، لكنها لن تبلغ أهدافها إلا إذا تبنّت نهجًا ديمقراطيًّا اجتماعيًّا صلبًا، يضع الإنسان في قلب السياسات، ويعالج الخلل البنيوي في توزيع الفرص والثروات، عندها فقط، يمكن أن نبني مجتمعًا لا يُترك فيه أحد خلف الركب، وتصبح مظلّة الأمان مظلة للجميع، لا شعارًا لفئة دون أخرى.