نبض البلد -
بقلم: منصور البواريد
في زمن تتساقط فيه الجدران القديمة للنظام الإقليمي، وتتشكل توازنات جديدة ما بعد الحرب، تبرز فرصة نادرة للأردن وسوريا، لا على أساس العاطفة أو المصير المشترك فقط، بل من منطق براغماتي محض: المصالح المتبادلة.
لقد دفعت سوريا ثمنًا باهظًا في بنيتها التحتية، وفي قطاعات الكهرباء والمياه والنقل، وصولًا إلى العدالة والإدارة العامة، ومع بدء انفتاح حذر في بعض الملفات الإقليمية، تلوح في الأفق إمكانية حقيقية لشراكة أردنية سورية ذكية، تقودها النقابات المهنية، والقطاع الخاص، ومجتمع رجال الأعمال، كأذرع استثمارية وشعبية في آن.
فيمتلك الأردن رصيدًا عميقًا في مجالات تُعد بالغة الأهمية في مرحلة ما بعد الحرب، كإصلاح القضاء، والإدارة العامة، ودمج التكنولوجيا في العمل الحكومي، وتحديث القطاع الأمني والعسكري ضمن أطر احترافية غير مؤدلجة، وهذا ما تفتقده سوريا حاليا. إنَّ تصدير هذهِ الخبرات ليس مجرد إحسان، بل هو استثمار استراتيجي طويل الأمد. فعندما يساهم الأردنيون في إعادة هيكلة البنية التحتية السورية، سواء عبر شركات المقاولات أو هندسة الطاقة أو التكنولوجيا القضائية، فهم في الحقيقة يوسعون السوق الأردنية، ويؤمنون وظيفة مستقبلية لرأس المال البشري الأردني الذي يعاني من البطالة والإشباع المحلي.
فالقطاع الخاص لا ينتظر الحكومات. وإذا كانت الاعتبارات السياسية تؤخر الخطوات الرسمية، فإنَّ رجال الأعمال، والنقابات المهنية، والمطورين العقاريين، والاتحادات الصناعية قادرون على المبادرة عبر قنوات الاقتصاد والمجتمع المدني،فإنَّ الأسواق السورية تبحث عن بدائل للمواد الأساسية، للكوادر المدربة، وللخبرة الإدارية، ولشراكات لا تُملَى من فوق، بل تبنى من أرض الواقع، ويمكن أن تكون البداية من اتفاقيات بين نقابة المهندسين الأردنيين ونقابات سورية لإعادة تصميم المدن، أو شراكات في تشغيل المستشفيات عبر خبرات الأردن الطبية، أو تجهيز محاكم جديدة على غرار التجربة الأردنية في أتمتة العمل القضائي، مما يفتح الباب لتحديث شامل للنظام العدلي السوري بإشراف أردني تدريبي وتقني.
هذه الشراكة لا تحمل فقط طابعًا اقتصاديًّا، بل بُعدًا سياسيًّا عميقًا. فهي تُعيد تموضع الأردن في الخارطة السورية ليس كمراقب، بل كمشارك في إعادة البناء، وهو ما يعزز الدور الإقليمي لعمان ويمنحها ورقة توازن بين المحور الخليجي والمحور الروسي الإيراني السوري، دون الانخراط الميداني أو المجازفة الأمنية.
ما يجب فعله الآن ليس معجزة، بل يتطلب إرادة واعية وقرارات مرنة، من خلال تنظيم زيارات ميدانية لوفود اقتصادية أردنية إلى دمشق وريفها بغطاء من نقابات مهنية يمكن أن يكون خطوة أولى حقيقية. كما أنَّ تشكيل مجلس أعمال أردني سوري مستقل يدرس فرص الاستثمار، ويضع قاعدة بيانات للمشاريع المتاحة، سيشكل إطارًا مؤسسيًّا مستدامًا. ومن المفيد التفكير أيضًا بإطلاق صندوق تمويلي مشترك بدعم من مؤسسات تمويل عربية لتمويل مشروعات البنية التحتية بين البلدين، ويمكن كذلك تصميم برامج تدريبية سورية أردنية في مجالات القضاء، والإدارة العامة، والأمن المدني، تعيد بناء الإنسان قبل البنيان، وتزرع الثقة بين البلدين على أسس واقعية.
ليست العلاقة مع سوريا عودة إلى الماضي، بل تقدم نحو مستقبل مشترك، والأردن مؤهل أن يكون في مقدمة هذا التحول، لا من موقع المراقب بل من موقع الفاعل والمبادر. إنَّ ما يمتلكه الأردن من خبرات ومؤسسات راسخة، وكوادر مهنية عالية الكفاءة، يضعه في موقع الشريك الطبيعي لسوريا في إعادة البناء، ومع رفع الولايات المتحدة للعقوبات المفروضة على سوريا، تُفتح نافذة تاريخية يجب أن لا تمر مرور الكرام، بل ينبغي أن تستثمر سريعًا، وبحكمة.
هذه التطورات تمنح الأردن فرصة لتعزيز حضوره السياسي، وتوسيع آفاقه الاقتصادية، وتكريس مكانته كجسر استراتيجي بين القوى الدولية والإقليمية، وبين من يسعى للسلام والبناء والاستقرار في المشرق العربي.