نبض البلد -
المحامية هبة أبو وردة
في منطق القوة والصراع، موضع السهام التي يوجهها العدو نحو أي دولة، هو ميزان قوتها؛ فهو يختار نقاط ضرباته بدقة، ويستهدف الأعصاب الحية، كما أن بعض نقاط القوة لا يمكن احتلالها بالحروب التقليدية، ولا جيوش تعبر الحدود، إنما إلى حرب ناعمة، كوجه بريء للعنف، ومظهر أنيق للهيمنة؛ فهي تخاض في الخفاء، تخترق الوعي، تغرس الشك، تبدد الإنتماء وتعيد تشكيل الإدراك الجمعي، بأدوات ناعمة، تبدأ من الإعلام المحمل بالسوداوية، وتمتد إلى منصات التواصل المسمومة بالمقارنات المضللة، يتم توجيهها لتفجير العقول بصمت.
الأردن، يمتلك أربعة نقاط عصبية تحت الضوء الأزرق اليوم، الهوية الأردنية الهجينة، فسيفساء الضفتين من بلاطتين متجاورتين، آخر خطوط الدفاع الرمزي بالمنطقة، ومخزون وجداني ووعي فكري وثقافي يجعل المواطن الأردني يعرف كيف يغضب ويحتفل ويقاوم، مما جعله عنصرا محوريا في حرب خفية تستهدف الجبهة الداخلية للوطن،أعلنتها الأيادي العابثة باتجاهين، أولهما التخدير الرقمي لإخماد الهوية، ثانيهما الإدمان النفسي للترويض على قبول سوق مفتوح على هويات مستوردة.
في هذا الوقت الحساس، الذي تتآكل فيه المفاهيم الكبرى تحت وقع التكرار وتتسلل الحرب الناعمة من الفراغ المحدود، لتستهدف الهوية الجامعة، وتدفعها نحو التفكك بتقنيات التفريغ والتهجين، والتطبيع الرمزي عبر الشاشة والمحتوى، لم يكن من الممكن أن يواجه إلا بذات الأدوات، لإعادة ترميم ما صدعته تلك الأدوات الناعمة، وهنا خرج حزب الميثاق الوطني ليشغل الفراغ الأخطر، بفكرا حادا يضاهي دقة السم الناعم.
الميثاق، اليوم يمثل العقد الوجداني الذي يحمي الجميع؛ فهو لم يدخل السياسة من بوابة الاستقطاب، إنما من ثقب الإبرة الذي يخيط ما مزقته الحرب الناعمة، الكرامة، الانتماء والجدوى، عبر مسارين لا يقل أي منهما أهمية عن الأخرى، فمن جهة التركيبة المختلطة، التي يعيد رسم الجسر الوطني، من خلال الجمع بين النخبة الفكرية والإدارية، ممن يملكون الخبرة والعمق والقدرة على الصياغة، والشباب الصاعد، ممن يملكون الحماسة والمرونة والاستعداد للبناء، والشخصيات العامة والرمزية، التي تحتفظ بثقة الناس وشرعيتهم الوجدانية، هذه فئات التي تكمل ضعف بعضها، تكون "شبكة وعي متماسكة مضادة للاختراق".
ومن جهة أخرى التمثيل الميداني المتصاعد، قدرة الميثاق على الانخراط في الفعاليات الميدانية، والانفتاح على شرائح غير حزبية، بعيدا عن فخ الاستعراض الخطابي، وقريبا من بناء الثقة التدريجي، فهو يدخل إلى مخيم، محافظة بعيدة، الأحياء المهمشة، مما يشفي فجوة الانتماء، ويعيد للهوية بعدها الحي، الميثاق يفعل بذلك "الاحتكاك المجتمعي الحي المنتظم المنظم”، ويجمع في مسيرته نظريات بناء الهوية من دوركايم إلى بنديكت أندرسون؛ بحيث يوفر شبكات انتماء عضوية تعيد ربط الإنسان بوطنه، وتكسر عزلة "الفرد ما بعد الحرب الناعمة”.
الميثاق، هو نموذجا لولادة حزب في زمن فاصل، بين غياب الأحزاب التقليدية، تراجع بعض الأحزاب المتطرفة، توجس المواطنين من الأحزاب المقربة من الدولة، لكنه رسم صورة مختلفة، عبر الخطاب الجامع غير الاستقطابي، وفتح الباب على مصرعيه أمام الشباب والنساء والنقابات، واتجه نحو المبادرات الميدانية في الريف والبادية والمدينة، بلغة هادئة لا صدامية لا سلطوية، التوازن بين الانفتاح دون الشعبوية والالتزام دون التبعية.
بين جلوس الشباب الطموح جنبا إلى جنب مع الأستاذ المخضرم، ومصافحة الرموز العشائرية يدا بيد مع الإصلاح المدني، وكتابة الجميع بلغة واحدة في حزب واحد، ومسيرهم في المحافل والمناسبات الوطنية، يكمن التحول النوعي من الوجود الرمزي إلى "الحضور الميداني العضوي المنظم"، وهو بذلك في طريقه إلى بناء شرعية تستند إلى التجذر الشعبي؛ ففي أدبيات العلوم السياسية "الشرعية القاعدية"، تبنى من الحقل الاجتماعي صعودا.
الحزب يجب أن يكون جهاز مضاد للسموم الخارجية والداخلية، ويقاس بعدد العقول التي أنقذها من التسطيح، وينتصر حين يُلهم الآخر بما هو أسمى من الخلاف؛ ففي عالم تشن فيه الحرب الناعمة على الوعي، يصبح دور الأحزاب دورا تربويا فكريا، تزرع منابرها في المدارس، الجامعات، الأحياء، ويفتح قنوات سيادية مع الشباب؛ لإبعادهم عن الثورة الفارغة بالحوار والمبادرة، والأردن اليوم يشهد نموذجا حيا، وهو حزب الميثاق الوطني، هذا مشروعا أردنيا جامعا لتحصين الهوية الأردنية التي تهدف الحرب الناعمة إلى تفكيكها، ويحبط نصف أهداف الحرب الناعمة.