ليس إنزال فحسب ،، بل جهاد في سبيل الله...

نبض البلد -
كيف يمكن لبشري يحمل مفاهيم الإنسانية أن يخوّن رجال كهؤلاء

بالقرآن بدأت وبحمد الله نجحت .. رحلة وثقت بطولات قتالية بسواعد أردنية

رأيت غزة الصمود ،، وإستنشقت رائحة ورودها ،، وسرقت من شجاعة مقاوميها،،

ساعة عشتها بشطرين ؛ شطر حزني على غزة .. وشطر سعادتي بصمودها ..

"والله إني لأستحي من الله أن أبتسم، وإخواني هناك يعذبون ويقتلون"

الأنباط – خليل النظامي

إنها السادسة صباحا ،،، التلفاز شاعل وصامت ،، والستائر مغلقة ،، والطقس بارد،، جرس الهاتف النقال يتحرش بي ،، ورسالة عبر "الواتس آب" تقول : "صباح الخير ،، الان تحركوا لطفا ،، الإقلاع الساعة 11.40 اليوم ،، والتواجد الساعة 9 صباحا في قاعدة الغباوي".

قبل وصول الرسالة كنت بحال ،، وبعد أن قرأتها ،، قلب الحال رأسا على عقب ،، وشخصيتي تبدلت بأخرى لم اعهدها سابقا ،، وعلى الفور توضأت وصليت ركعتين ،، وقرأت قليلا من القرآن ،، ثم عدت الى هاتفي النقال ،، وكتبت رسالة لـ أخي فيها وصية بكل ممتلكاتي وما علي من ديون ،، ما الذي يحدث لا أعلم .. !!!!!

تحركت بسيارتي الخاصة ،، يرافقني كأس من القهوة الى القاعدة العسكرية ،، وطيلة الطريق التي إمتدت لحوالي ساعة وربع لم يهدأ صوت القارىء عبد الباسط عبد الصمد...

وصلت للقاعدة العسكرية ،، وفي كل خطوة كنت أخطوها كانت رائحة الفوتيك الذي كان رفيق جسدي لسنوات طويلة مضت تقترب مني أكثر وأكثر ،، وشعور المجاهد في سبيل الله والدين والأرض لا ينفك عن مغادرتي ،، أخبره أنني مجرد صحفي يبحث عن قصة يرويها ،، ويصر على تملكي والسيطرة على تفكيري....

المكان مرعب ،، والمشهد مختلف ،، طائرات ضخمة جدا في كل مكان ،، ومشاعر الصحفي البسيط سيطرت عليها مشاعر المقاتل،، لم أعد أعلم ،، هل أنا صحفي أم ضابط مقاتل في القوات المسلحة الأردنية ،، فـ المشهد لم يكن مجرد مساعدات غذائية وعلاجية تحملها طائرات الى أهلنا في قطاع غزة ،، لا ليس كذلك ،، المشهد فيه روح هبطت من السماء وتغلغلت في الأحشاء وقلبت كل الموازين بداخلي...

من خلفي ينادي صوت جهوري يزأر كـ الأسد بتحية الصباح ،، وبكل شهامة وكرم الرجال قدم لي أروع كأس من الشاي المعتق الممزوج بالنكهة العسكرية ،، سألته عن طبيعة العمل؛ وأجابني أنه لا يذكر متى كانت آخر مرة عاد فيها الى بيته وأسرته ،، حتى أنه أخبرني أن معظم العاملين في القاعدة العسكرية يمتنعون عن العودة لبيوتهم وأسرهم ،، سالته لماذا ,,!!! ما المغري في بقاءهم هنا ،،، أجابني ؛ عبادة الله ومساعدة عبيده ،، فعل الخير ومروءة الرجال أيها الصحفي ،، !!!!

وأضاف ،، نحن أيها الصحفي أقسمنا بأرواحنا أمام خالق الخلق أن لا نتوانى للحظة عن فداء الأردن وشعبها وأرضها بأوراحنا ،، نحن يا حضرة الصحفي خلقنا لنكون عونا لكل محتاج وشريد ،، هذا ديدنا وهذا معدننا ،، والقائد الأعلى لا يتوانى للحظة عن تقديم كل أشكال وأنواع الدعم لنا، لأنه مؤمن وواثق أننا خير كتف يستند عليه كل مجروح ومظلوم....

أنهيت جلستي مع الأسد المغوار ،،، وذهبت لمكان فيه مجموعة طائرات ،،، ورأيت بالقرب منها مجموعة من الجباه الشقر لا السمر ،، فأستغربت ،، وعدت وسألت أحد الأشاوس ،، من هؤلاء وهل سنحلق معهم ،، فقال لي : يتبعون للطائرات الامريكية والفرنسية ،،، فقلت له أخبرني إذا أين اجد الجباه السمراء خاصتي وخاصتنا ،، لا أطيق شوقا للقاءهم والمكوث معهم ،،، وأشار بيده الى مكانهم في الجهة المقابلة ،، بكل عفوية هممت بالمسير نحوهم وهم يبعدون قرابة الـ نصف كيلو ،،، فمسك بيدي وقال لي: ما أنت فاعل أيها الصحفي ،، فقلت: أسير لملاقاة الجباه السمر ،، فضحك وقال: هذا مدرج لهبوط للطائرات ،،، أتنوي قتل نفسك قبل أن تشارك الجميع قصتك ،، وضحكنا سويا ،، وتذكرت حينها فطريتي القروية وسلوكياتي العفوية،،، ولم يتوانى عن مساعدتي وأخذني الى مكانهم في الجهة المقابلة...

وصلت الى منطقة الجباه السمر خاصتنا ،، ووجدت مشهدا مذهل ،،، عرين ينتشرون فيه كـ الأسود ،، في كل "زقة ومطرح" تجد الفوتيك العسكري، بين المباني وفي المكاتب، وبداخل "الهناجر"، وحول الطائرات ،، فوقها ،، وتحتها ،، ذاك يحمل الحقائب الكبيرة ،، وأخرون يقومون بترتيب المساعدات والإشراف على تركيبها بالطائرة ،، وآخر مسرع يحمل بين يديه أوراق كثيرة ،،، ومجموعة من الطيارين المقاتلين يرتدون "الأفرهولات" الخضر يتفقدون الطائرات من كل صوب وناحية ،،، وعلى تلك الزاوية يقف أسد صنديد شامخ يحمل على كتفيه رتبة عسكرية رفيعة يشرف ويوجه ويراقب ،، نعم إنهم الأسود السمر ،،، حماة الوطن ،، من نذروا أرواحهم لحمايتنا وحماية تراب أردننا الغالي...

ومرة أخرى، صوت يناديني ،، تفضل أيها المصور ،، إقترب وإلتقط بسرعة ما تريد من الصور فرحلتنا ستنطلق بعد قليل ،، ورددت عليه بالشكر وقلت: أنا صحفي متخصص في كتابة القصص الصحفية ،، ولم آت اليوم لـ ألتقط الصور ،، فـ الصور في كل مكان منتشرة ،، وإنما جئت لأصطاد وأبحث عن ما لم تستطع عدسات الكاميرات إلتقاطه أيها الضابط ،، فوضع يده على كتفي وإبتسم إبتسامة الفارس المغوار وقال : "حياك الله يا بطل" ،، أنت في بيت الأسود، إصنع قصتك كما تشاء، ونحن من حولك إن إحتجت لمساعدة...

وبدأ صوت الطائرات المزعج يتحرش بمزاجي الهادىء،، ولكن هيهات ،، فقد سيطرت عليه مسبقا مقابلتي لـ الأسود السمر ،، وصعدت الى الطائرة ،، ووجدت جميع الأفراد والضباط المرافقين منشغلين كل في عمله المخصص بشكل منظم ومرتب ،، ونسبة الخطأ فيه صفر ،، أحدهم يتفقد المساعدات ،، واخر يشبك بها المظليات ،، وجاء قائد السرب وألقى تحية الصباح علينا وصافحنا مصافحة الرجال الرجال...

وفجأة إقترب أحد الضباط مني حاملا بيده مجموعة من الأوراق ،، وقال لي بكل لطافة ورقي : إن تكرمت حضرة الصحفي التوقيع على هذه الورقة ،، وقرأتها وكانت ورقة إبراء ذمه وعدم تحمل مسؤولية ،، فقلت له : لن اكمل قراءتها يا صديقي ،، فـ القائد الأعلى وثق بكم قبلي ،، وأنتم تثقون بالله ،، وأنا أثق بالله وبالقائد الأعلى وبكم ،، ووقعت عليها دون تردد ،، وما هي إلاّ لحظات حتى أقفل الباب علينا ،، وبدأت الطائرة بـ التحرك، وهنا ؛ بدأت أقرأ آيات من القرآن الكريم، وبعض من الأدعية ،، ليس خوفا من شيء ،، وإنما تعودنا السير على تعاليم الله ورسوله الكريم في السفر...

وما أن أقلعت الطائرة ،، حتى عادت تلك المشاعر تتملكني مرة أخرى ،، مشاعر الجهاد في سبيل الله ،، مشاعر القومية العربية،، مشاعر العسكرية والقتال لاجل الأرض والدين والعرض ،، تقديم العون والمساعدة لكل شريد ومضطهد...
أطالع وجوه الرجال الأسود من حولي بصمت ،، وأرى فيها الشموخ والشجاعة والإقدام ،، فرسان تركوا خلفهم كل ملذات الحياة ،، وأطاحوا بها مرضاة لله ،، يحملون أكفانهم بين أعينهم ،، فـ الموت قريب جدا ،، والغدر أقرب أيضا ،، ولكن هيهات أن ينال منهم وهم في رعاية الله وحمايته ،، فهم أشجع الشجعان ،، وأنبل النبلاء ،، وما يقومون به من عمل أشبه بعمل الأنبياء ،،،
بعد مضي نصف ساعة من رحلتنا ،، جلست بـ محاذاة النافذة ،، ورأيت مدينة ضخمة ومنظمة وكل شيء فيها شبه كامل ،، فسألتهم عنها ،، فأجابني أحدهم: هذه الأراضي الفلسطينية المحتلة ،، وعيناه تحمل من القول ما لا يقال ولا يكتب ،، فـ تضاعفت بداخلي مشاعر الغضب وزادت ،، وبدأت أكتم في نفسي تلك المشاعر كي لا يلاحظها أحد من الضباط ،، فأنا برفقة أشخاص مدربين على إكتشاف كل شيء ،، وخشيت أن يدخل الظن ويعتقدون أنني أخفي في باطني شيء غير متوقع ،، وتمالكت نفسي ،، وبدأت أتساءل وأوجه أسئلتي الى العزيز الجبار؛ أهذه الأرض التي أسرى منها رسولنا الكريم ،، أهنا تاريخ أجدادي ،، أهنا صل إبن الخطاب ،، أهذه الأرض التي مر بها خالد والقعقاع وإبن العاص وقهروا الروم فيها ،، أهذا يا رب ما أصبحنا عليه ،، أهذه أرضنا وقد أصبح الصهاينة الكفار يعيثون فيها فسادا بأمتنا العربية والإسلامية ،،؟؟ظ وتذكرت ورددت دعاء والدتي الطيبة على الصهاينة حين قالت : "اللهم لا ترفع لليهود راية"....

وما بين مد وجزر ينهش بـ مكنوناتي ،، رأيت غزة بأم عيني ،،، وفجأة تفجرت بـ داخلي براكين الحزن واليأس، وخلخلت رجولتي زلازل الخجل والشجاعة ،، وشطرتني الى نصفين ،، نصف حزين يبكي ويذرف دموع قهر الرجال وقلة الحيلة ،، ونصف فرح سعيد برائحة وطن الشجعان المنبعثة في السماء ،، نعم ؛ إنها أرض الأحرار التي لم يبقى فيها شبر واحد لم تقطر عليه دماء صلاح الدين الأيوبي ،، نعم إنها الأرض التي هزمت فيها جيوش الصليبيين واليهود جميعا ،،، الأرض التي توحدت فيها كل القبائل العربية والإسلامية وكانوا خير فاتحين لمسرى سيد البشرية صل الله عليه وسلم...

يشير قائد الرحلة الى إقتراب موعد الإنزال ،، فهممت ووضعت يدي اليمنى على "بلوكات" المساعدات الغذائية ،، وقرأت عليها آيات من كتاب الله ،، وأمنتها أن تصل الى أرض الأحرار بكل سلامة ،، وتخبر شجعان غزة قولتي التي سبقني إليها الفاتح الأيوبي حين أقسم : "والله إني لأستحي من الله أن أبتسم، وإخواني هناك يعذبون ويقتلون" ،، وتملكني حينها شعور غريب جدا ،، أن أقفز وأتمسك بـ إحدى "البلوكات"، وأهبط معها الى أرض غزة ،، إلاّ انني تمالكت نفسي مرة أخرى ،، وعدلت عن هذه الغرابة ،، خشية إحراج وطني ودولتي وأسرتي بسلوك غريب لن أجد له تفسير لاحقا...

وفتح باب الطيارة ،، وبدأ الأشاوس المقاتلون بـ إنزال المساعدات من سماء غزة الى أرض الأحرار ،، ورأيت بعضهم يدعون الله ،، وربما بعضهم الآخر كان يتلو آيات من الكتاب الحكيم ،، وبدأت اتساءل كيف يمكن لبشري يحمل مفاهيم الإنسانية وتابع لدين الله أن يخوّن رجال كهؤلاء ،، كيف يمكن أن يخوّن من حمل روحه على كفه لأجل جوعى غزة الصمود ،، والمشهد حينها لم يكن مشهد إنزالات مساعدات غذائية وعلاجية ،، فالحكاية التي قرأتها في وجوه وعيون الضباط الأشاوس قبل وبعد عملية الإنزال تروي قصة مختلفة ،، عنوانها الجهاد في سبيل الله...

نعم يا سادتي ،، إنه جهاد في سبيل الله ،، وليس مجرد عمليات إنزال جوية ،، فـ هذه العمليات محفوفة بـ المخاطر القاتلة ،، والصهاينة لا يؤتمنون تاريخيا ،، فهم قتلة الأنبياء ،، ومن نقضوا العهود والمواثيق مع شعوب الأرض جميعا ،، وأشاوس القوات المسلحة ومقاتليها رجال صناديد ،، لا يخشون في الله لومة لائم ،، يطيرون ويتحركون غير آبهين بـ الموت ،، وقلوبهم وأعينهم وكل جوارحهم ومكنوناتهم وأدعيتهم تهبط على أرض غزة مرافقة تلك المساعدات ،،، وفي كل مرة يطيرون بها يخيل إليّ أنهم يرددون:" نحن أحياء وباقون ،، وللحلم بقية" ،، وأردد على سجع قولهم وأقول :"أتيت ولكني لم أصل ،، وجئت ولكني لم أعد"....