نبض البلد -
حاتم النعيمات
يناقش الفيلسوف الفرنسي (ألبير كامو) في كتابه "الإنسان المتمرد" التحولات النفسية والفكرية التي تصيب الإنسان عندما يتحول الحُكم الفردي المنفعل إلى ظاهرة جماعية، ويرى (كامو) أن هذا الإنسان يبدأ بالرفض من أجل العدالة والكرامة والقيم العليا، لكنه حين يذوب في الجماعة، يتحول هذا الرفض إلى أيديولوجيا، ومع الوقت تتكون أداة قياس غير دقيقة تصبح وسيلة جديدة للاستبداد ورفض الآخر. وهنا تتكوّن نفسية الجماهير الفوضوية التي تبرر العنف باسم الحرية، لتعيد إنتاج ما كانت ترفضه في الأصل.
مكانيًا، ربما استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي توضيح ما تحدث عنه (كامو) أكثر، حيث يمكن تشبيهها اليوم بمختبر كبير يمكن من خلاله مراقبة مثل الظاهرة بسهولة؛ فالتفاعل مع الأحداث من قبل روادها يثبت لنا أن هناك عقلية جمعية قاسية في حكمها على الأحداث السياسية وحادة في تفاعلها مع الشأن العام. أما زمانيًا، فقد كشف التفاعل العربي مع مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر أن هناك حالة من اللامعيارية العامة تقود الاستنتاجات والتشخيصات التي يصل إليها العقل الفردي العربي كبداية لانخراطه في عقل جمعي غير نزيه ومتسرع.
على سبيل المثال، سعى هذا العقل الجمعي طوال فترة العدوان على غزة إلى فرض تعريفه للنصر حتى على الغزاوي المكلوم ذاته، ورفع شعارات الصمود والبطولة من مكان خارج منطقة المعاناة الحقيقة دون أن يكلف نفسه بتفحص المشهد، بل أن تيارًا يتبع له خوّن من يشتكي ومن ينتقد حماس حتى من أهل القطاع، وتحولت الفصائل التي نفذت السابع من أكتوبر إلى تابوهات لا يمكن المساس بها، وتجاوز هؤلاء نتائج العدوان الكارثية على الإنسان الفلسطيني، وعلى القضية الفلسطينية ومعادلتها الديموغرافية مقابل التمسُّك في وصف ترضاه المجاميع المؤدلجة التي سرعان ما تنقض على أي رأي مخالف لها.
في نفس السياق، وفي ظل التنافس بين المؤسسات الإعلامية العربية على التريند والتفاعل، أضحت هذه المؤسسات مجبرة على جذب المواطن العربي بالعناوين الساخنة دون الالتفات إلى التفاصيل، فرأينا التصريحات المجتزأة والأخبار المضللة بغية خلق الجدل بشكله الفوضوي العدواني، وهنا تورمت الظاهرة التي يتحدث عنها (ألبير كامو) وتعززت سُلطة العقل الجمعي على العقل الفردي الناقد، ووُصم أي توضيح يخرج لأي قصة مغلوطة بأنه خداع ومحاولة للتضليل مع أن النتائج والفحص المنطقي قد يقولان العكس، أقصد أن حالة الاستعصاء أخذت بعدًا ربحيًا تجاريًا للأسف.
يفترض أن تلعب المؤسسات الإعلامية دور القاعدة الأولى الصحيحة في الاستدلال، أو المرجعية الأساسية للرواية الحقيقية، حيث أن سلامة القاعدة الأولى في الاستدلال تحفظ حدًا أدنى من الحماية ضد المغالطات المنطقية، لكن ما يحدث -للأسف- هو أن الكثير من المؤسسات الإعلامية أصبحت هي من يحقن الرأي العام بالمغالطات بدافع خلق "الجدل المُربح"، وبالتالي نرى اليوم كل هذه الفوضى والتناحر.
في النهاية، لا بد لنا كمجتمعات أن نضحي وأن نوجد ضغطًا مضادًا وحالة نقدية معاكسة للتقليل من حالة الانفلات العامة، ولتوسيع زاوية النقد الموضوعي بالتالي مواجهة هذه الظاهرة؛ فالهروب من هذه المعركة يعني أن تتحول المغالطة المنطقية واللامعيارية إلى نقطة إسناد تعتاد عليها الأجيال القادمة، وهذا بتصوري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانهيارات الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا.