نبض البلد -
حاتم النعيمات
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن إعادة إعمار غزة ستكون واحدة من أعقد المهام الإنسانية والسياسية في العصر الحديث؛ فالكارثة التي خلفتها الحرب، والتي تجاوزت عامين تتكون من شقين: بشري متمثل في أكثر من 75 ألف شهيد و150 ألف جريح و 10 آلاف مفقود، ومادي يظهر من خلال حجم الخراب الذي أصاب نحو 70% من بنية القطاع، حتى باتت الحياة فيه شبه مشلولة.
التقرير الأممي نفسه يقدّر أن إعادة غزة إلى ما كانت عليه قبل الحرب ستحتاج إلى خمسة عشر عامًا، وهي فترة طويلة بما يكفي لتغيير البنية الاجتماعية والديموغرافية للسكان إلى الأبد، وهذا يشي بطبيعة الحال أن القصة ليست مجرد إعادة إعمار متأخرة، بل مشروع إعادة تشكيل تدريجي للقطاع، قد يمهّد لتمرير فكرة "التهجير الطوعي البطيء” تحت الغطاء الإنساني، خصوصًا في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي الذي سيبقى ما بقي اليمين في السلطة.
الدمار لم يكن نتيجة عشوائية للحرب، بل كان ركيزة في استراتيجية الاحتلال؛ فإسرائيل لم تستهدف المقاتلين بقدر ما استهدفت إمكانية استمرار الحياة داخل غزة لتعطيل كل ما هو مدني وخدماتي في القطاع، لأن إطالة زمن التعافي هو أقصر طريق لإضعاف إرادة الناس وتحويل القطاع إلى عبء إنساني واقتصادي دائم.
تُقدّر الأمم المتحدة أن كلفة إعادة الإعمار قد تتجاوز 80 مليار دولار، وهذا رقم يكشف فداحة الكارثة وعمقها. وحتى لو توفرت هذه الأموال، فإن تنفيذ الإعمار سيواجه شبكة من العراقيل السياسية والأمنية والفنية، فكل خطوة ستحتاج إلى موافقات متشابكة بين القوى الإقليمية والدولية، ما يجعل العملية رهينة التوازنات لا الاحتياجات.
الخطأ الأكبر بتصوري هو اعتبار ملف الإعمار مسألة فنية يمكن معالجتها لاحقًا، في الواقع قد يكون هو الامتحان الحقيقي لمرحلة ما بعد الحرب، وهو الذي سيحدد شكل الوجود الفلسطيني في غزة ومستقبلها السياسي، فحين يصبح الإعمار مشروطًا، تتحول القضية من مسألة سيادة إلى صفقة إعادة تأهيل خاضعة للإملاءات.
ما يثير الريبة هو أن خطة ترامب التي يتم تطبيقها حاليًا تتحدث عن إجراءات إنهاء الحرب بالدرجة الأولى، وعن إعادة إعمار تفضي إلى أن تكون غزة جديدة بطابع "المُدن المعجزة" كما ذُكر نصًا في البند العاشر من الخطة، و عندما أرادت الحديث دولة فلسطينية في البند التاسع عشر استخدمت ألفاظ وجمل فضفاضة مثل إصلاح السلطة الفلسطينية "بأمانة"، وعبارة "قد تتهيأ الظروف أخيرًا لمسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة". مفهوم أن مساحة الحركة التفاوضية للوسطاء كانت ضيقة بسبب الوضع الإنساني ولا يلام أحد على الموافقة على هذه الصيغة التي سيكون ملف إعادة الإعمار اللغم الأكبر فيها.
لقد خاضت حماس حربًا بلا قراءة دقيقة للمآلات. ومن الواضح اليوم أن ما جرى افتقر إلى أي تصور استراتيجي، فغزة ليست ساحة عابرة للقتال، بل تشكل جزءًا مهمًا من الديموغرافيا الفلسطينية، والنتيجة أننا اليوم أمام استمرار الاحتلال بأشكال جديدة، وانحسار الكثافة السكانية بفعل التدمير.
المجتمع الدولي سيتدخل في المرحلة المقبلة تحت شعار "إعادة الإعمار”، لكنه في الجوهر سيعيد صياغة المشهد الفلسطيني بشروطه، وسيتحول كل نقاش حول المقاومة والشرعية والحقوق إلى نقاش حول التمويل والمساعدات، وعندها ستُختزل الذاكرة الجماعية الفلسطينية في لحظة السابع من أكتوبر كنقطة انعطاف كبيرة في القضية برمتها.