" BETK من الكتاب إلى الكفاءة"
أ.د. سلطان المعاني
يرسم BETK في الأردن أفقًا تربويًا يحرّر المدرسة والجامعة من أسر ثنائيةٍ قديمة بين "علمي” و"أدبي”، ويعيد تعريف التعلّم بوصفه مسارًا مهاريًا متدرّجًا يصل الطالب بسوق العمل كما يصل به إلى الدراسات العليا. يفتح هذا الفضاء أبوابه على مشروعٍ وطنيّ يتساند فيه التخطيط والسياسة والممارسة؛ فتتحوّل الخطط من جداول مواد إلى هندسة خبرات، ويتحوّل الامتحان من لحظة قطيعة إلى محطة ضمن مسارٍ يتعقّب أثر التقدّم ويكشف مكامن القوة والحاجة بدقة.
ينقل هذا المسار النقاش من سؤال "أي مسار؟” إلى سؤال "أي مهارة؟”. تُبنى الرحلة التعليمية حول مخرجات تعلم واضحة، ووحدات مرنة، ومشاريع عملية تُظهر الكفاءة بدل الاكتفاء بتكرار المعلومة. تتيح هذه البنية تراكب اعتمادات صغيرة تتجمّع في شهاداتٍ كبرى، فيجد الطالب نفسه أمام دروبٍ متعددة: توظيفٌ مبكر عبر مهارةٍ نافذة، أو مواصلةٌ أكاديمية حتى الماجستير. تتحوّل السمعة الاجتماعية للتعليم المهني إلى قيمةٍ مُعترف بها، لأن العائلة ترى بأمّ العين صلته المباشرة بمستقبل أبنائها وباب الجامعة في الوقت نفسه.
يعيد هذا الفضاء بناء المنهاج من الداخل. تتكامل العلوم الأساسية مع التقانة واللغة والاتصال والتصميم وحلّ المشكلات ضمن وحداتٍ عابرة للتخصّصات، وتتشكل فرق طلابية تقرأ الواقع وتنتج حلولًا ملموسة: نموذجٌ أوليّ في الكهرباء، لوحة تحكّم في السياحة الذكية، تطبيق صغير في إدارة التراث أو الطاقة. تُقاس هذه الأعمال وفق قواعد معلنة تشرح المعايير وتدقّقها، فتترسّخ ثقافة الأداء لا ثقافة الحفظ. تمنح لوحات المتابعة المعلّم قدرةً على التدخّل الذكي: دعمٌ فردي للطالب، وتوسيعٌ للتحدّي حيث يظهر الاستعداد، وإدارةٌ مختلفة لوقت الصفّ ترفع جودة التفاعل.
يؤسّس نظام بيتك لشراكاتٍ متينة تربط الوزارات بالجامعات والمدارس والقطاع الخاص وشركاء دوليين من ذوي الخبرة. تُترجم الشراكات إلى نقل معرفة وتوطين أدوات وتبادل مدرسيّات ناجحة، مع مواءمةٍ دقيقة لمعايير الاعتماد والقياس ضمن الإطار الوطني للمؤهلات. تنعكس هذه الحوكمة على إعداد المعلّم؛ إذ ينتقل التطوير المهني من دوراتٍ متفرّقة إلى مسارٍ مستمرّ مرتبط ببياناتٍ قادمة من الصفّ ذاته، ويجري توثيق أثر التدريب على الممارسة وعلى تحصيل الطلبة بصورة موضوعية.
تواجه التجربة الوليدة تحدّياتٍ متوقّعة. تخلق الحداثة قلقًا لدى الأسر والمعلمين والطلبة، ويظهر ضغطٌ من امتحاناتٍ تجريبية وفجوات تجهيزٍ رقمي. تستجيب المنظومة بإطلاقٍ متدرّج، ودعمٍ إرشاديّ في المدارس، ومصارف أسئلة تُقاس صلاحيتها إحصائيًا، ومختبراتٍ مدرسية وجامعية تتشارك الموارد، وتمويلٍ موجّه للبنية التحتية، ومعايير إنصافٍ تضمن وصولًا متكافئًا في المحافظات كافة. يرافق ذلك خطاب تواصل عام يشرح الفلسفة والجدوى والفرص، فيتراجع الخوف أمام المعلومة الموثوقة والخبرة المشاهَدة.
يمنح هذا المجال الطالبة والطالب سيرةً تعليمية ذات هوية. يكتسب المتعلم ملفًا رقميا يضم الأدلة على كفاءاته: مشروع تخرّج صغير، تدريب ميداني قصير، حلّ برمجي، تجربة في مختبر، عرض شفهي موثّق. يبني هذا الملف ثقةً بالنفس ومسارًا مهنيًا واضحًا، ويتيح للجامعة وأرباب العمل قراءة الإمكانات الحقيقية بدل الاكتفاء بورقة العلامات. تترسّخ من خلال ذلك مهارات القرن: التفكير النقدي، التعاون، التواصل، إدارة الوقت، أخلاقيات العمل الرقمي.
يحرّك هذا الفضاء الاقتصاد الوطني عبر وصل التعليم بحاجة السوق الحالية والآتية. تتوسّع قطاعات التقنية والسياحة والصناعات الإبداعية والطاقة المتجددة حين تجد كفاءاتٍ مهيأة تدخل العمل بسرعة وتتطور خلاله. تتشكل جسورٌ بين المحافظات والمؤسسات الإنتاجية، وتستعيد الجامعة دورها محركًا للابتكار من خلال منصات مشاريع مشتركة مع القطاعات. ينعكس هذا الترابط على معدلات البطالة بين الشباب، وعلى قدرة الأردن في استقطاب الاستثمارات والمشاريع العابرة للحدود.
يحمي هذا المسار كرامة المتعلم عبر حوكمة بيانات دقيقة. تُحدَّد الملكية وغايات الجمع ومدد الاحتفاظ، وتُصمَّم أنظمة آمنة تضمن الخصوصية وتخضع للتدقيق، وتُعتمد معايير توافقية تمنع تفتت الأنظمة وهدر الموارد. تُربط تحليلات البيانات بفلسفة تربوية إنسانية تهتم بالرفاه النفسي والبدني، وتضع مؤشراتٍ لقياس الضغط والإرهاق والتوازن، فتسير الجودة الأكاديمية مع جودة الحياة في مسارٍ واحد.
يستدعي هذا التحوّل لغةً بسيطة وقيادةً صبورة. تُدعى المدارس إلى تجريبٍ محسوب، وتُدعى الجامعات إلى فتح مساراتٍ تراكبية مرنة، ويُدعى القطاع الخاص إلى رعاية مشاريع طلابية وتنظيم تدريبٍ قصير الأمد ينتهي بفرصٍ فعلية. تتقدم الوزارات بخطة تنفيذية واضحة وجداول زمنية وقياسات أثر منشورة للرأي العام. تنشأ عبر ذلك ثقةٌ متبادلة، ويتحوّل النجاح الفردي إلى نجاحٍ مؤسسي قابل للتوسّع.
يؤكّد BETK أنّ الأردن قادر على صياغة قصته التربوية التالية. يلتقي الحلم بالعقل حين تتوحّد الرؤية مع التنفيذ، وحين يتحوّل النقاش من تصنيفاتٍ قديمة إلى مخرجاتٍ ملموسة وكرامة إنسانية محفوظة. يخطو الطالب والمدرسة والجامعة خطوةً واحدة نحو المستقبل ذاته: مستقبلٌ تعرّفه المهارة والمعرفة والعمل المشترك، وتخدمه منظومةٌ مرنة عادلة تُحسن الإصغاء لاحتياجات البلاد وتستبقها بحلولٍ تعلّمية رصينة ولغتها السلاسة وعمادها العمق.