نبض البلد - د. عمار علي حسن
المقدمة:
اختار د. عمار على حسن هويّة الذّات ليعبِّر عن إيمانه، بما يعتريه من مشاعر إنسانية، اتجاه الإنسان الذي يفتح أمامه آفاقًا واسعة تتجاوز دائرة فرديّتها، لتصبح مضمونًا من مضامين المعرفة؛ فهو القائل في محاضراته جميعها نأخذ نصف المعرفة من البشر وليس الكتب.
كتب د. عمار علي حسن في مختلف الأصناف الأدبيّة والفكرية، وخطابه الذي آمن به أنّ الأنانية هي داء الإشكالية، وفبركة منظومات اجتماعية وسياسية تسوقه على مُجتمع، يُراد أن يكون مجتمعًا استهلاكيًا بامتياز.
د. عمار علي حسن صاحب مشروع السؤال لحياتنا اليومية، في حياتنا اليومية العربية، ومنتج للإجابة عن سؤاله، لخلق منظومة فكرية تنويرية تحفر العقل.
حاوره سليم النجار...
1 ـ كيف نوائم بين "الفكر الوافد" وبين تراثنا الذي هناك من يروج دوما أن بغيره تضيع عروبتنا أو هويتنا العربية؟
ـ لا يمكن لأحد الآن، في ظل ثورة الاتصالات الرهيبة، أن يضع سدودًا سميكة عالية في وجه ما يأتي من الخارج، سواء كانت سلعًا مع اتفاقيات التجارة الدولية الحرة، أو أفكارًا صارت أكثر رواجًا مع شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، ومواقع التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، وإمكانيات الترجمة السريعة بين كل اللغات تقريبًا.
والأفكار التي تأتي من الخارج ليست كلها ضارة، فبعضها مفيد، ويصلنا بالتطورات الثقافية والعلمية في العالم، وعلينا أن نملك مشروعنا الفكري أو الثقافي أولًا، وبقدر عصريته وتماسكه يكون قادرًا على التخلص من الضار، واستيعاب المفيد.
وتركيب "الأفكار الوافدة" الذي شاع في أدبياتنا يبدو ابن المجال السياسي والأيديولوجي أكثر منه ابن المجال الثقافي، لا سيما لدى الجماعات السياسية الإسلامية، التي تنظر بعين الريبة إلى كل ما يرد من الخارج، عطفًا على الحقبة الاستعمارية الطويلة، ونزولًا على تصورها بوجود حرب دائمة يشنها الغرب على الإسلام.
وبيننا من يعتقدون أن في الأفكار الوافدة إطارًا معرفيًا وسياسيًا لا بد من الإسناد إليه. فقبل عقود كان الشيوعيون المؤمنون بالأممية لا يرون أي غضاضة في اعتناق الماركسية اللينيينية والتروتسكية والماوية، ولا يتعاملون مع كل هذا على أنه وافد، بل دخلوا في مواجهات مع أنظمة حكم كانت تطرح أيديولوجيات قريبة من هذا، مثلل الناصرية في مصر، والبعثية في سوريا والعراق.
واليوم يصنع الليبراليون إطارهم من الأفكار الغربية المتمركزة حول الحرية، ويرون أن هذا ما ينقصنا. وحتى داخل التيار الإسلامي تسيح الأفكار بين منتجي خطابه أيًا كان موقعهم، ولعلنا في هذا المقام نذكر تأثير الهندي أبو الأعلى المودودي على كتابات سيد قطب التي اعتنقتها تنظيمات عديدة، ولا تزال قادرة على إلهام كثير من الشباب النازعين إلى التطرف الديني.
وبينما نرى نحن العرب أن الثقافة العربية ـ الإسلامية، أيًا كان منبتها هي التي تشكل خصوصيتنا وهويتنا، هناك في العالم العربي من يناهضون هذا، مثل أنصار الفرعونية في مصر، والأمازيغية في بلاد المغرب العربي، والكردية في العراق وسوريا، والزنوج في السودان، فيما ينقسم مسيحيو مصر حول هذا، فمن بينهم من يرى نفسه مسيحيًا دينًا وعربيًا ثقافة، ومنهم من يعدُّ الثقافة واللغة العربية وافدة، ويجب مناهضتها. وبين المسيحيين الشرقيين، لا سيما من الأرثوذكس من يرى في البروتستانتية مذهبًا وافدًا يجب محاصرته.
وبيننا كذلك من يرون التشيع الصفوي، الذي تتبناه مرجعية قم وافدًا علينا، يحاصر التشيع العلوي الذي كانت تتبناه مرجعية النجف، وكان سائدًا في العالم العربي قبل المشروع السياسي الديني الذي تبنته الثورة الإيرانية، وتسعى إلى نشره.
نحن أمام عالم تختلط فيه الأفكار والمعارف بلا حدود، وهذا أمر لا ينسحب على العرب فقط، بل هو سمة عالمية، تجد من يتحمس لها تحت لافتة "الإرث الإنساني المشترك"، الذي صنعته الطبقات الحضارية المتتابعة، وهي في سجالنا الثقافي تبدأ بالحضارة المصرية القديمة، التي نقل عنها الإغريق الأقدمون، وأخذ عنهم العرب عبر الترجمة، ثم أخذ الغرب عن الحضارة الإسلامية، حتى قامت نهضته في الأماكن المتاخمة للإمبراطورية الإسلامية التي ظلت تتسيد العالم سبعة قرون.
خلاصة الأمر يجب أن تكون الثقافة الأصلية أو الأصيلة قوية، بكل العناصر المركبة التي تشكلها من الأفكار والطقوس والتقاليد والفنون، حتى يمكنها أن تتعامل مع الوافد على أنه ثقافة فرعية يمكن التفاعل معها، واستيعابها، والاستفادة من عطائها، وليس الانهضام أو التماهي فيها. وهذا الوافد بالنسبة لنا لا يجب أن يقتصر على ما يرد من الغرب؛ فالأمم الشرقية، لا سيما في بلاد الصين والهند، لديها ما تقدمه للبشرية، ونظرًا لأننا نقع في قلب العالم، فليس في وسعنا أن نصم الآذان، ونغلق العيون، عما يرد من هذا الاتجاه، لا سيما مع تقدم هذه البلدان لتصبح ذات وزن كبير في النظام الدولي الراهن.
2 ـ هل هناك تناقض، أو ما يشبه ذلك، بين الثقافة العربية وبين المعاصرة أو العصرنة؟
لا يوجد تناقض إن كانت الثقافة العربية نفسها معاصرة، أو عمل أهلها على عصرنتها، بما يجعلها صالحة للتداول، وذلك بقدرتها على أن تجيب على أسئلة الناس الآن وهنا، وليست تلك الثقافة الموروثة التي كانت في جوهرها إجابات على أسئلة السابقين، وكذلك تأملاتهم وأطروحاتهم المتعددة في بحر الحياة الممتد.
التناقض ينشأ إن كانت ثقافتنا العربية الراهنة هي مجرد صدى للكلام القديم، أو ترديد ببغائي له، يتعامل معه على أنه معنى مقدس. ففي ظل هكذا وضع لا يقوم تناقض فقط، بل تنطلق أوهام أيضًا، هي معيقة أو معطِلة على أي حال.
في ثقافتنا القديمة هناك ما لا يزال نافعًا، ولا يجب التخلص منه. وهناك ما يعجز عن تقديم حلول لمشكلاتنا، وهذا يجب أن يبقى جزءا من تاريخ المعرفة أو العلم، لكنه لا يشكل معرفة أو علمًا معاصرًا يمكن الاتكاء عليه، والاطمئنان إليه.
إذا ثبتنا المسائل الاعتقادية بالنسبة للمؤمنين بها، وهي لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، يوجد كذلك من ثقافتنا القديمة ما له حيثية في زماننا، فما تركه لنا الشعراء والبلاغيون وكبار المتصوفة والفلاسفة مثلا لا يزال قادرًا على إدهاشنا وإفادتنا، فهو لا يسقط بالتقادم، ولا يبليه الزمن.
وهناك أيضًا ما تركه الفقهاء فيما يخص التشريعات، وهو لا يزال يؤدي وظيفته، لا سيما المتعلق بالنص منه، وهو ملزم للممتثلين له بوصفه شرعًا إلهيًّا. وما يخص العبادات منه يتمتع بقدر كبير من الديمومة، وما يخص المعاملات، بعض الفقه القديم لا يزال يعمل؛ لأنه يحمل حجية وإفادة.
في المقابل ليس كل عصري هو بالضرورة شيء ثمين، فكثير من الأفكار والتصورات التي ولدت في زماننا متهافت وضحل وعابر ويداعب الغرائز أو هو استهلاكي وغارق في المادية، بعضه يتعامل مع الإنسان بوصفه حيوانًا، وبعضه يتعامل معه كآلة، وهذا مرفوض على وجهيه.
3 ـ يُقال نحن العرب خبر من أخبار التاريخ مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه ما هو تعليقك على هذه المقولة؟
ينطبق هذا بالقطع على جزء من ثقافتنا، فتصوراتنا الاجتماعية والفقهية والبلاغية، وكثير من المقاربات والأساليب والأنساق الفكرية ليس بوسعها أن تسعفنا في التفاعل الخلاق مع قضايا عصرنا ومشكلاته. وبعضها لا يزال صالحًا في تحقيق هذا الهدف.
لكن هذه القاعدة لا تنطبق علينا فقط، إذ يمكن لأهل اليونان المعاصرين أن يجدوها منطبقة عليهم، وهم يتذكرون حضارتهم التي سادت ثم بادت. ويمكن للدول التي تم استعمارها وصبغها المحتلون بثقافتهم، ونطقوا بلسانهم، أن يرددون هذا أيضًا.
ربما نحن "من أخبار التاريخ" إن تحدثنا عن القوة المادية، التي تراجعنا فيها بشكل كبير، حتى صرنا مستتبعين بعد أن كنا متسيدين، لكننا في هذا لسنا وحدنا، فقانون الإمبراطوريات التي تزدهر ثم تخبو ينطبق علينا وعلى غيرنا.
أما إن تحدثنا عن الجانب الروحي فلا يزال لدينا في هذا المضمار ما نسهم به في الحضارة المعاصرة. ويحضرني في هذا المقام ما أورده زكي نجيب محمود في كتابه صغير الحجم عظيم القيمة "الشرق الفنان". فالشرق ونحن منه يلعب دورًا في وجه الإغراق في المادية والأتمتة، التي تُخرج أحيانًا الإنسان من إنسانيته وبعض مهامه ووظائفه، وهو تحدي سيزيد من مرور الأيام في حضور الذكاء الاصطناعي.
4 ـ هل صحيح أن السؤال لا يكون سؤالاً مشروعًا عند منطق العقل إلا إذا كان له جواب ممكن لو بعد حين؟
السؤال هو مفتاح المعرفة ابتداء. والكتب والدراسات القيمة هي التي تثير تساؤلات عميقة مهمة بقدر ما تطرح أجوبة على أسئلة وافتراضات علمية، تثبتها أو تنفيها.
وفي نظري أن كل الأسئلة مشروعة، لا سيما أن البشرية، ورغم كل ما ارتقت إليه على طريق العلم، لا تزال تحبو في اتجاه كشف المزيد مما لا يزال غامضًا وملغزًا. وحتى لو هرولنا في اتجاه كشف ما خفي عنا، فنحن لا نبلغ تمامه واكتماله أبدًا.
المشكلة لدينا في هؤلاء الذين يكتمون السؤال، لاستسلامهم لأقدار الحياة، أو لكسل عن هتك الأسرار الدفينة المتوالية، أو لتصورهم أن عدم التسليم بكل ما نفكر فيه هو نقص في الإيمان، أو نوع من البلبلة التي تجرح الوثوقية التي يرتاح لها كثيرون منا.
الأسئلة تسبق الأجوبة بكثير، وتتجدد بلا هوادة، حتى أننا كلما ازددنا علمًا نشعر أننا نزداد جهلًا، وفق تصور آنيشتين. لهذا لا يجب أن نقلق من أن بعض الأسئلة المطروحة لا تلقى أجوبة في زماننا، فهذا ليس معناه فساد السؤال أو خطله إنما هو عجزنا عن الإيفاء بالإجابة الكافية الشافية الآن، وعلينا أن نظل مشغولين بها، بل من الواجب أن نبحث في كل إجابة عن سؤال جديد، وهكذا في جدلية لا تنتهي.
5 ـ هل أستطيع القول: إنَّنا في حياتنا الثقافية العربية لا نزال في مرحلة السحر التي تعالج قضايانا بغير أسبابها الطبيعية؟
هذه آفة دون شك عند الذين لا يردون عجزهم عن حل مشكلاتنا إلى أسباب منطقية، أو لا يتوسلون بالتفكير العلمي في النظر إلى قضايانا.
في ثقافتنا نتحدث عن نوعين من العلم: "علم كسبي" نحصله من مطالعة الكتب وتأمل تجارب الحياة، و"علم لدني" هو ابن الإلهام والحدس. لا تناقض بين الاثنين بل تراحم وتواشج عند قلة القلة، ووجود أحدهما لا ينفي الآخر، ولا يدعو إلى الاستغناء عنه، لكن المشكلة تكمن في حجم أو قدر أو مستوى الاعتماد على أي منهما. فالإفراط في رد كل شيء إلى أسباب ما وراء الطبيعة، يدخلنا في كثير من الأحيان في دوائر الأساطير والخرافات والسحر، وهذا يبعدنا، دون شك، عن السير في طريق التقدم.
ومن مشاكلنا الآن أننا، وفي ظل كسلنا أو عجزنا عن التوسل بالأسباب أو الأخذ بها، نستسلم للأقدار أو نغرق في الغيببيات، ونتوهم أننا بهذا نريح أنفسنا.
لا تخلو أي أمة، بما في ذلك التي تقدمت كثيرًا على درب التنمية باختلاف شروطها وأنواعها، من لجوء إلى ألوان من الأساطير والخرفات والسحر، وهذا يؤدي دوره الاجتماعي والنفسي والتاريخي، بل والسياسي أحيانًا. لكن المشكلة تحدث حين تهيمن هذه النزعة على التفكير، وتحتل الذهن كل الوقت.
6ـ إن التساؤل الذي يفرض نفسه الآن هو: لماذا تنمو أنماط حياتنا وتذبل؟
في ظني أن هذا أمر طبيعي؛ فطرائق العيش وأنماطه متجددة، اللهم إلا لدى المجموعات البشرية المعزولة تمامًا عن العالم، مثل سكان بعض الجزر، الذين لا يزالون يحافظون على لهجتهم دون تغير، وعلى طقوسهم دون تجدد، وعلى نظرتهم للحياة دون تبدل.
لكن الأمم المفتوحة على العالم تشهد تغيرًا دون شك، فيما تستمر بعض الثقافات التقليدية حتى في ظل التحديث المتواصل. لكن هذه التغير لا يأتي بغتة، ولا يحل فجأة، إنما يولد على مهل، فتجدد مفردات اللغة، وتذبل بعض الطقوس والأنشطة الذهنية والحركية الشعبية بمرور الوقت، ويحل غيرها مكانها، وتقلب صفحات الحياة، وتكتمل الحقب التاريخية وتتوالى.
لكن يظل ما نعتقد في اختفائه قائمًا عند دارسي التاريخ الاجتماعي، الذين يشكل القديم جدًا جزءًا من تفسيرهم لما يجري الآن، وعند الأنثربولوجيين الذين يغوصون وراء الجذور البعيدة. ومثل هذه الدراسات تجعلنا نقف على الخيط الرفيع الواصل بين الماضي والحاضر، حتى لو كان باهتًا أو خافيًا.
٧- هل لا تزال موضة المثقف المؤدلج رائجة في أوساطنا الثقافية العربية؟
هي موجودة دون شك، فالتيارات السياسية العربية المختلفة لها من ينتجون خطابها، وهؤلاء يتمسكون بالأيديولوجية يسارية كانت أو يمينية، إسلامية أو علمانية لكن عدد ودور هذا الصنف من المثقفين يتراجع لدينا، كما يتراجع في العالم كله، مع تزعزع السرديات الكبرى.
٨- هل يستقيم القول إنّ العلاقات الاجتماعية تولّد أنماطًا لإدراك العالم من حولنا؟
هذا سؤال عند دور الخبرة والتجربة الحياتية في فهم العالم، فالحقيقة أن الإنسان ابن عوائده، كما يقول ابن خلدون. وما يحصله الناس من معرفة، يدركون بها الذات والمجتمع والعالم والكون، لا يعود كله إلى الكتب، وحتى هذه الأخيرة تحمل خبرات مؤلفيها. ومن لا يطالع الكتب لا يعدم ثقافة حازها من تجاربه الشخصية، إذ لا يوجد إنسان بلا ثقافة، حتى لو كان أميًّا. هذه الثقافة تعين صاحبها على إدراك ما حوله وفهمه وتطويعه بما يخدم مصلحته أو منفعته أو موقفه.