نبض البلد - حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
من كان يظن قبل بضع سنوات أن الموظف الأكثر إنتاجية في المكتب قد لا يكون إنساناً؟ اليوم، بات الذكاء الاصطناعي يجلس إلى جانبنا على مكاتبنا الرقمية، ينجز المهام في ثوانٍ، يُحلل البيانات بلمح البصر، ويقترح الحلول قبل أن نطرح الأسئلة. في عالم العمل الجديد، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل أصبح شريكًا استراتيجيًا في رفع كفاءة الأفراد والمنظمات على حد سواء.
دخل الذكاء الاصطناعي مكان العمل من أوسع أبوابه، متجاوزًا حدود الأتمتة التقليدية إلى مستويات غير مسبوقة من التفاعل، التحليل، وصنع القرار. وقد أصبح لاعبًا رئيسيًا في الشركات الكبرى، والمؤسسات الحكومية، وحتى بين رواد الأعمال والمستقلين. لكن السؤال الأكبر اليوم ليس: هل ستؤثر هذه التقنية على العمل؟ بل: كيف يمكننا توظيف الذكاء الاصطناعي لتعزيز إنتاجيتنا، دون أن نفقد إنسانيتنا؟
أول وأبرز التحولات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في مكان العمل هو التخلص من الأعمال التكرارية الروتينية. فمهام مثل فرز البريد الإلكتروني، إدخال البيانات، جدولة الاجتماعات، أو حتى إعداد التقارير الأولية، أصبحت تُنجز عبر أدوات ذكية تعمل على مدار الساعة وبدقة تفوق التوقعات. النتيجة؟ مزيد من الوقت للموظفين للتركيز على الإبداع، التحليل، وبناء العلاقات – وهي أمور لا تزال تتفوق فيها العقول البشرية.
لكن ما يجعل الذكاء الاصطناعي ثورة حقيقية في مكان العمل هو قدرته على التعلم والتكيف. بفضل تقنيات التعلم الآلي، باتت المنصات الذكية تتعرّف على أنماط العمل الشخصية، وتتكيف معها. فإذا كنت مديرًا للمشاريع، سيتعلّم النظام كيف تُوزع المهام، وأي نوع من التقارير تفضل. وإذا كنت تعمل في خدمة العملاء، يمكن للذكاء الاصطناعي توليد ردود تلقائية بناء على سلوك الزبائن، مما يُحسن من تجربة العميل ويزيد من معدل الاحتفاظ به.
في الاجتماعات، لم يعد من الضروري تدوين الملاحظات يدويًا، فأنظمة مثل Notion AI أو Otter تقوم بتسجيل الاجتماع، وتلخيصه، وتقديم النقاط الحاسمة تلقائيًا. أما في التسويق والمبيعات، فقد غيرت أدوات الذكاء الاصطناعي أسلوب الحملات بالكامل، حيث يمكنها تحليل تفاعل الجمهور، وتحديد التوقيت المثالي للنشر، بل وكتابة الإعلانات نفسها بناءً على البيانات.
وتتجلى قوة الذكاء الاصطناعي بشكل خاص في التحليلات التنبؤية. فبدلاً من اتخاذ القرارات بناء على الحدس، أصبح المدراء يتخذون قرارات استراتيجية استنادًا إلى تقارير دقيقة تتنبأ بالطلب، وتقيس المخاطر، وتُظهر تأثير كل خيار محتمل. وهذا لا يقلل فقط من الهدر، بل يحسن من تخصيص الموارد وزيادة العوائد.
ولعل أحد أبرز المجالات التي استفادت من هذه التقنية هو توظيف الكفاءات. حيث تستخدم العديد من الشركات الآن خوارزميات ذكية لتحليل السير الذاتية، وفحص ملاءمة المرشحين بناءً على تحليل النصوص، وسلوكهم الرقمي، وحتى تعبيراتهم أثناء المقابلة. هذا لا يسرّع عملية التوظيف فحسب، بل يُقلل من التحيزات البشرية ويوسّع نطاق الوصول إلى المواهب.
ومع كل هذه المزايا، لا بد أن نطرح السؤال الطبيعي: هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي وظائفنا؟
الجواب أكثر تعقيدًا مما يبدو. نعم، هناك بعض الوظائف الروتينية التي قد تختفي أو تُعاد هيكلتها. لكن في المقابل، تظهر وظائف جديدة كليًا: مهندس التعليمات الذكية (Prompt Engineer)، مفسّر خوارزميات، مدير الأنظمة التوليدية، وأدوار أخرى لم تكن موجودة من قبل. الأهم من ذلك هو أن مستقبل العمل لن يكون إما للآلة أو للإنسان، بل لمن يعرف كيف يتعاون مع الآلة ويقودها بذكاء.
لكي نحقق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي في مكان العمل، نحن بحاجة إلى بيئة مؤسساتية مرنة، وثقافة منفتحة على التغيير، وبرامج تدريبية متقدمة تجهز الموظفين على العمل مع الأدوات الذكية لا ضدها. كذلك يجب أن تُدمج هذه التقنية بمسؤولية، مع احترام الخصوصية، وتطبيق مبادئ الشفافية، والمساءلة في استخدام الخوارزميات.
الذكاء الاصطناعي لا يُقيد الإبداع البشري، بل يُحرره من القيود الإدارية والعملياتية، ويمنحنا فرصة للتركيز على المهام التي تتطلب العاطفة، الفهم العميق، والحس الإنساني. لذا، فإن مستقبل العمل لا يهددنا كما يُشاع، بل يدعونا إلى التطور، إلى نسخة أكثر ذكاء من أنفسنا.
في نهاية المطاف، فإن تبني الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل ليس خيارًا ترفيًّا، بل ضرورة استراتيجية لكل من يسعى إلى البقاء والمنافسة في عصر تتغيّر فيه قواعد اللعبة كل يوم. الذكاء الاصطناعي قادم، بل هو هنا بالفعل. والسؤال الآن: هل نحن مستعدون لنحتضنه؟