حاتم النعيمات
يوم الاستقلال هو مناسبة تمر فيها معظم دول العالم، وتذوب في ذلك اليوم معظم الفروقات السياسية، فهو عيد يخص الوطن ولا يخضع لأي حسابات سياسية بوصفه نقطة بداية للدول وأنظمتها السياسية.
الوضع في الأردن مختلف نوعًا ما، فلطالما بقيت هذه المناسبة وما زالت مثار جدلٍ سياسي غريب، فعلى ضفافها تُطرح أسئلة كثيرة عن السيادة والاعتماد على الذات وعن شكل علاقاتنا الدولية، ويصل الأمر أحيانًا إلى نقاش كينونة ووجود الأردن كإقليم والأردنيين كشعب له خصائص اجتماعية وتاريخ، وفي كل سنة نصادف هؤلاء الذين يطرحون الأسئلة بشكل يستنكر علينا الاحتفال باستقلالنا ومنجزاتنا.
الأردن دولة مستقلة استقلالًا تامًا لا لُبس فيه، هذه حقيقة، فالاستقلال تم عن بريطانيا بشكل تام، وقد مَلكنا قرارنا الكامل من ذلك الحين وبدأنا على أثره التخطيط لتعريب الجيش الذي تم عام 1956. وامتدت مظاهر هذا الاستقلال على مدى عقود لاحقة، حيث عاكس الأردن الكثير من التوجهات الأمريكية والدولية، فوقف مع العراق في مطلع التسعينيات ضد رغبة العالم كله، ورفض صفقة القرن (2017) ومقترح التهجير (2025) اللذان حاولت الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم فرضهما عليه، والأردن ذاته حارب إسرائيل عشرات المرات وانتصر في معظمها، وهددها مؤخرًا بالحرب مقابل التهجير، ويدعم اليوم أشقاءه في سوريا وفلسطين ولبنان، بالتالي فإن نفي الاستقلال عن الأردن بسبب علاقته مع أمريكا أو إسرائيل أو غيرهما يجب أن يتوقف، فالعلاقة مع الولايات المتحدة بالذات تبادلية وليست كما يعرفها البعض بأنها من طرف واحد، والعلاقة مع إسرائيل أقرب للعداوة رغم معاهدة السلام، والعلاقات مع بقية المحيط هي علاقات فعل وليس رد فعل.
وبالتركيز على الولايات المتحدة كأكبر قوة، فإن ما يُقدّم لنا من قبلها من دعم مالي لا يعني شراء مواقفنا، ولو كان ذلك صحيحًا لوافق الأردن على الخطط الأمريكية وانتهى الأمر مقابل هذا الدعم. ما تقدمه الولايات المتحدة هو جزء بسيط مما تحمّله الأردن من تجارب ومغامرات واشنطن في المنطقة، فنحن نستحق إزاء الخراب الذي أحاط بنا بسبب السياسة الأمريكية ما هو أكثر مما نحصل عليه. يسحب هذا الطرح على بقية الدول. أما الاتفاقيات العسكرية مع الولايات المتحدة فلا يمكن اعتبارها جرحًا لمفهوم الاستقلال، لأن الأردن يملك علاقات عسكرية مع الولايات المتحدة تمامًا كما تملك العشرات من دول العالم، بل أن هذه العلاقة ساهمت في تطور القوات المسلحة والأمن في البلاد.
في سياق آخر، يحاول البعض إسقاط الوضع في فلسطين على استقلال الأردن، بل أنهم يربطون هذا الاستقلال أحيانًا بخرافة تقول أن الأردن الحديث نشأ لحماية إسرائيل بعد أن تخلى عن فلسطين، فيقال في ذلك أن الأردن كيان وظيفي موجود لتبقى إسرائيل، ولا أعرف بالضبط ما الخطر الذي يمنعه الأردن عن إسرائيل؟ ولو عدنا إلى تعريف الوظيفية، فالسؤال سيكون كالتالي: ما هي الوظيفة التي يسقط الأردن بسقوطها ككيان وظيفي حسب الإدعاء؟ هذه الأسئلة إجابتها لا شيء! فالأردن أكثر من حارب إسرائيل بالتالي كيف يكون حاميًا لها، ولا توجد وظيفة معينة تنتهي الكينونة الأردنية بانتهائها.
الخلاف على السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد ليس له علاقة بفكرة الإستقلال، فالاستقلال فعل لحظي يتم بقرار والخلافات على هذه الملفات مستمرة وطبيعية.
تاريخيًا كان مفهوم استقلال الأردن مستهدفًا من معظم القوى السياسية الفاعلة على الساحة الأردنية، وكانت كل قوة تقزّم هذا المفهوم حسب مصالحها؛ فالحركة الإسلامية كانت تعتبره ضديد للخلافة وشعار أرض الحشد والرباط، والقومي كان يعتبره مناهضًا للوحدة العربية رغم أنه اعترف بقطرية بقية الدول العربية، والفصائلية كانت تراه شعارًا لترسيخ الأردن كدولة تمنع تحرير فلسطين.
لا ينكر عاقل في الأردن أن هناك مشاكل اقتصادية في البلاد، ومشاكل إدارية، وسياسية، لكن الفكرة تكمن في أن هذه الملفات ليس لها علاقة بمفهوم الاستقلال لا من قريب ولا من بعيد. ولأوضح أكثر، فإن الاستقلال مفهوم لا يزيد أو ينقص حسب الوضع الاقتصادي أو السياسي أو مع شكل علاقاتك الدولية، بل هو الضد من الانتداب أو الاحتلال ببساطة.
اليوم لدينا خارطة سياسية جديدة تخلو من معظم القوى التي كان استقلالنا عقدتها، ولدينا صحوة وطنية عظيمة بين شبابنا بالذات أولئك الذين لم يتربوا على صخب الخطابات الخشبية كما حدث للأجيال التي سبقتهم. لذلك، فإن البناء على هذا التراص الوطني يجب ألا يختزل في الشكليات بل باستغلال هذه القوة الدافعة لتعزير البناء والاعتماد على الذات خصوصًا في الاقتصاد وذلك بالاتجاه نحو الاقتصاد المادي الملموس ومن خلال تعزيز القطاع العام كخيار مكافئ للقطاع الخاص.
الاستقلال مناسبة وطنية مهمة نتذكر فيها كيف صمدنا في عواصف المنطقة بذكاء القيادة الهاشمية وبهمة أبناء الأردن، وهو أيضًا تذكير سنوي بالإنجاز والبناء وتنبيه بأهمية الحوار حول مشاكل البلاد والتحديات التي تواجهها.