نبض البلد - بهدوء
عمر كلاب
تتراوح الجلسة مع الدكتور مصطفى الحمارنة, بين متعة الضحك وسخريته الجميلة, وبين مسار وعي يصل الى ارتفاع 200 الف قدم عن سطح الواقع, لكن دعوته الاخيرة لي للعودة الى الكتابة في التنظير السياسي, دعوة كريمة, بعد ان ارسلت له صباح امس قطفة وعي, من اقوال المفكرة الشيوعية لورا لوكسمبرغ, التي ورد ذكرها في حوارنا نهاية الاسبوع الفائت, وهو بالعادة يصفها في حوارنا الثنائي" صاحبتك " فأنا من المعجبين جدا بهذه المفكرة المناضلة, فنحن جاد علينا الواقع السياسي بكثير من الاحداث, لكننا حضرنا ولم نجدها, عكس العبارة المألوفة: " وجدناك ولم نحضر ", فقد غاب المنظرون وتراجع الوعي, لصالح اليومي والمعاشي, وحتى لا ادخل في باب اطلاق الاحكام, السلطة نجحت في تجريف الوعي, والرؤية والقيادة اليسارية غابا عن الوعي.
منذ قبوله المشاركة في الانتخابات النيابية عام 1989, قبِل اليسار الاردني التخلي عن الاشتراكية الثورية التي كانت مرجعيته ونهجه, وتم تتويج هذا الخروج من الاشتراكية الثورية الى الاشتراكية الديمقراطية, مع اعلان الميثاق الوطني, الذي شارك في صياغته كل التكوينات السياسية, وعلى رأسها اليسار الاردني, بنسختيه اليسار المحلي واليسار التابع لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية, الذي كان يعمل على شكل منظمات محلية, لكنه غادر مربع السلوك ولم يغادر مربع النهج, فبقي يردد مصطلحات ثورية وسلوك شبه ديمقراطي, يشارك في الانتخابات البرلمانية, ويقبل استقطاب بعض اعضائه الى الحكومات المتعاقبة, دون توفير الغطاء السياسي لهم.
بقي سلوك اليسار الاردني, اشبه بمشية الغراب لسنوات طويلة, وللتوضيح, فإن الغراب حاول تقليد مشية الطاووس, ولم يتقنها ونسي مشيته, فظل يسلك المسار الديمقراطي, او ما نطلق عليه بسخرية لاذعة, اليسار الاوروبي, ويتحدث بنَفس الاشتراكية الثورية, وهذا ما اورثه ازدواجية قاتلة, اخرجته من دائرة الفعل السياسي, بل وأورث نشطائه حالة من الانفصام السياسي, بين ما يُتردد من اقوال وما يشاهد من افعال, فصار اسير تجارب خارجية, هي اكثر تعبيرا عنه من تعبيرات داخلية, لذلك انحاز الى نماذج مثل حزب الله وحركة حماس ونظام الملالي في طهران, وكلها نماذج نقيض لتربته الفكرية ولمنهجه السياسي, فازداد التناقض والانفصام.
ان استمرار الالتباس السائد بين هذين المنهجين المتناقضين, أصبح ضاراً ولا بد من إبراز التمايز بينهما أمام الجماهير الشعبية, وأمام مناضلي قوى اليسار، تحديدا بعد ان جرى ترسيم الفواصل نظريا على الاقل, وترسيمها حزبيا على ارض الواقع, احزاب اشتراكية ديمقراطية حسب شهادة المنشأ واوراق الاعتماد, الحزب الديمقراطي الاجتماعي, والتيار المدني, وثمة احزاب تقدم نفسها بشكل ماركسي- لينيني شبه واضح المعالم والتفاصيل, ايضا, حسب شهادة المنشأء, الحزب الشيوعي , حزب الوحدة, حزب الشعب, و بغض النظر عن إمكانية التعاون والتنسيق بين قوى هذين التيارين, في إطار مهمات المرحلة التاريخية الراهنة, لقد حان الوقت لتحديد التمايز داخل حركة اليسار الاردني, نفسها على نحو أدق, التمايز بين مَنْ يكتفي منها بالإصلاح، وبين مَنْ يناضل من أجل إحداث بعض الإصلاحات, ولكنه يستهدف بالأساس تحقيق التغيير, والتمايز بين مَنْ يحصر نفسه في أساليب النضال البرلماني، ومَنْ يستخدم النضال البرلماني في إطار النضال السياسي والجماهيري, من دون الانخداع بأوهام التغيير عبر الأساليب البرلمانية.
هكذا يمكن ان يتم تجسير المسافة بين الوعي والسلوك, اما ان نبقى اسرى احاديث مرسلة عن الاشتراكية الثورية, وسلوك اقرب الى اليسار الاوروبي بنسخته الرديئة, عند اليسار التقليدي, واوهام الاشتراكية التي تحاول انسنة الرأسمالية, كما عند الديمقراطي الاجتماعي والتيار المدني فهذا اضاعة للوقت, واستنزاف للموارد البشرية المستنزفة اصلا, فنحن نعاني من ضعف الطلب على الاصلاح السياسي, ونعاني اكثر من سوء مدخلات الموارد البشرية على الاحزاب السياسية وباقي تفاصيل العمل السياسي والثقافي.
omarkallab@yahoo.com