نبض البلد -
حاتم النعيمات
التجربة تقول أننا يجب أن نشعر بالقلق إذا توافقت الشعوب العربية على دعم أو رفض أي قضية، فمعظم القضايا التي توحد الرأي العام العربي ضدها أو معها أضرّت بمصالحهم واستفادت منها دول في الإقليم وخارجه.
الأمثلة كثيرة وحدثت في دولنا ولا أريد الدخول في تفاصيلها لأن القصد هو مناقشة "كيف يتخذ العربي مواقفه؟" أكثر من نتيحة هذه المواقف، مع إيماني بأهمية سرد الأمثلة طبعًا. ولكن يمكن تأمُّل ما حدث لكل من غزة والعراق وسوريا وليبيا واليمن وأفغانستان ومراجعة قادة الحدث فيها وشكل إدارتهم وكيف تفاعلت شعوب المنطقة معهم لتصلك الصورة بوضوح.
في هذا السياق، لا بد من مناقشة "وزن الرأي العام العربي" كدلالة على سهولة نقله من موقف إلى موقف بواسطة "الفرد المخلِّص"، فقد تبع الرأي العام العربي كل السياسيين الذين لم يقدموا رؤية أو برنامج لدرجة أن هؤلاء السياسيين أصبحوا محبربن على استغلال هذه الخاصية في الوصول إلى السلطة.
جانب آخر من الضرر، ويتمثل في أن الاستمرار في دعم الكاريزما اقتلع فكرة المحاسبة من جذورها، فالإعجاب بالكاريزما نشاط غير عقلي، بل هو أقرب للعاطفة والانطباع، وينتج عنه توارث عمودي وانتشار أفقي لهذه اللامعيارية، وقد يتحور الرأي العام ليصبح ثنائيَّ الاختيارات؛ أي أنه محصور بخيارين لا ثالث لهما، فإما أن يدعم حد التقديس أو يكره حد الاحتقار، وهذا بطبيعة الحال مدعاة للانقسام والاستقطاب.
صحيح أن غير المهتمين بالسياسة وهم النسبة الأكبر في المجتمعات الأخرى (غير العربية) يميلون أيضًا إلى الكاريزما والسمات غير التطبيقية أكثر من الفعل السياسي والرقابة -وهذه مشكلة الديموقراطية بالمناسبة- لكنهم في المقابل يكتفون بالتصويت في الانتخابات دون السعي الدائم إلى التبشير بمواقفهم السياسية والدعوة إليها كما يفعل العربي الذي يملك رغبة جامحة ودائمة في يتبع الآخر رأيه.
تاريخنا وحاضرنا يعجّان بالأدلة على هذه الظاهرة، ولو تصفحت مواقع التواصل الاجتماعي لوجدت الكثير من الدلالات على ما أقول، فالدعم على هذه المنصات موجه لجميع الشخصيات التي تتبنى المغامرات والقفز في المجهول، وفي المقابل توجه الإساءات إلى كل عقلاني واقعي ولن تجد له من ناصر ولا معين.
اليوم تعيش منطقتنا تغيرات مهمة بانتهاء تيارات أيدولوجية أنتجت حالة التأييد بلا معايير المذكورة أعلاه، كيف لا، وقد سيطرت هذه التيارات على العقل العربي لعقود وأدخلته إلى سراديب الوهم والتنجيم السياسي، لذلك لا بد من تكثيف نقد العقل السياسي العربي المعاصر للاستفادة قدر المستطاع من هذه التغيرات؛ فلا يمكن أن نعيد إنتاج ذات المشهد مرة أخرى.
باختصار، أعتقد أن على المثقف العربي أن يخرج من العزلة الآن، فهذا هو الوقت المناسب لذلك، وأقصد بالضبط ذلك المثقف الذي لم يتلوث فكره بتقديس الأشخاص المتهورين سياسيًا أو حتى فكرهم، فالتاريخ لن يسامح كل من يتبنى المصالح الوطنية والعلم إذا استمر بالصمت والانعزال.