الدكتور عبدالله سرور الزعبي
ما بين الزمن المستعمل والمستقبل...قراءة في المشهد الأردني
نبض البلد - البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
في السياسة كما في الحياة، من أخطر ما يواجه الأمم ليس العدو الخارجي، بل الزمن المستعمل، الزمن الذي استُهلك في تكرار نفس الأخطاء، وفي إدارة الحاضر بعقلية الماضي، وفي استنزاف الطاقات على حساب المستقبل. وكما قال الفيلسوف نيتشه "أخطر سجن هو أن تبقى أسيرًا لزمنٍ لم يعد لك فيه مكان".
فالزمن ليس مجرد تقويم يمرّ، بل هو المورد الوحيد الذي لا يُسترد. وكما قال المفكر الأمريكي بنيامين فرانكلين "الوقت هو المال، لكنه في السياسة هو الحياة ذاتها"، أما الفيلسوف الفرنسي بول فاليري فذهب أبعد حين أكد أن أعظم خسارة تصيب الشعوب ليست في مواردها المهدورة بل في أعوامها الضائعة.
ومن هنا يظهر في كل أمة، سؤال وجودي يطلّ برأسه في لحظة الأزمات، كيف استُعمل الزمن؟
العالم من حولنا يعطينا دروسًا واضحة، الولايات المتحدة تعيد تعريف نفسها عبر كل أزمة، ودول شرق آسيا حوّلت الفقر والدمار إلى رافعة للنمو، فيما أوروبا الشرقية أعادت بناء هويتها بعد انهيار الشيوعية.
هناك دائمًا لحظة حاسمة، إما أن تتحرر الشعوب من أثقال الزمن المستعمل، أو تبقى رهينة للماضي وهي تدّعي السير نحو المستقبل.
حين نتأمل تاريخ دول صاعدة مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، التي لم تصعد لأن نخبها أرادت البقاء، بل لأن مشروعها الوطني قام على ربط التعليم بالإنتاج، والشفافية بالمحاسبة. وفيتنام، لم تنجح لأنها تملك موارد ضخمة، بل لأنها تجاوزت عقلية الزمن المستعمل بعد الحرب، ووضعت خططًا واقعية قابلة للقياس والتنفيذ. واليوم بنغلادش ورواندا وغيرها، جميعها أدركت أن الزمن يجب ان يستُعمل كأداة لبناء المستقبل، في كل خطة تنموية، وفي كل مشروع، كان جزءًا من سباق مع الوقت.
على النقيض، فإن أممًا أخرى غرقت في مشاريع مؤقتة، لا تحمل سوى عناوين براقة، وانتهى بها الأمر إلى مراكمة الفشل وتأجيل الأزمات. الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما وصف هذه الظاهرة ذات مرة بقوله "المجتمعات التي تهدر وقتها في الدوران حول نفسها تخسر المستقبل، حتى قبل أن تبدأ سباقه".
الأردن ليس استثناءً من هذه المعادلة ولا يمكن إنكار أن الزمن استُعمل أحيانًا بطريقة لم تخدم المستقبل. الكثير من المشاريع التي رُوّج لها كمنعطفات كبرى للتنمية، وعلى مدار عقود، بدت وكأنها ستغيّر مسار الدولة، فمشروع ناقل البحرين (الذي لم يستغل الظرف السياسي في وقته لكي يتم تنفيذ)، ومشروع الصخر الزيتي الذي وعد بتحقيق استقلال الطاقة، واستراتيجيات إصلاح التعليم، والاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، التي رُوِّج لها كقصة نجاح، ومشاريع إعادة هيكلة المياه وتخفيض الفاقد، للوصول الى الامن المائي والامن الغذائي، ومشروع الكعكة الصفراء، كمدخل إلى برنامج نووي سلمي، وحتى دراسات السليكا التي يعاد انتاجها من فترة الى اخرى، وبشّرت بمنتج عالمي عالي النقاء، ومشروع سكة الحديد، ومصنع السيارات، وخطط التشغيل، وغيرها، جميعها مشاريع لم تحقق الأثر الموعود، وبعضها انتهي إلى أوراقٍ مؤرشفة أو نتائج جزئية لا تليق بحجم الطموحات. يضاف اليها مشروع تطوير حقل حمزة النفطي، الذي وعدنا بإنتاج معقول (حوالي 2000 برميل يومياً، ليعود في شهر اب وأيلول هذا العام كما كان قبل اغلاقه في بداية تسعينيات القرن الماضي، وما زلنا مصرين على الانفاق والحفر)، وسننتظر سنوات اخرى، ومشروع الغاز الموعود، الذي انتظرنا إنتاج 200 مليون قدم مكعب يومياً هذ العام، كما تم وعدنا عام 2022 (الإنتاج الحالي اقل من 20 مليون قدم مكعب يومياً)، واليوم ننتظر الوصول الى انتاج 418 مليون قدم مكعب يومياً بحلول عام 2030، لكن يبقى السؤال ماذا لو هدرنا الوقت والمال ولم نصل اليها؟
هذه ليست مجرد إخفاقات اقتصادية، بل هي خسارات في الزمن الوطني، فسنوات طويلة ضاعت من عمر الدولة دون أن تتحول إلى مكاسب ملموسة للمجتمع. والنتيجة أن البعض في الشارع بدأ يرى في بعض هذه المشاريع، وسيلة لإبقاء بعض النخب في مواقعها أكثر من كونها خططًا لتحرير المستقبل. إنها صورة كلاسيكية للزمن المستعمل، وتكرار العناوين ذاتها، ما يعني أن المستقبل يصبح رهينة الماضي.
اليوم يعيش المواطن شعور بان المستقبل يتآكل بدل أن يُبنى، وفرص العمل تضيق، وجودة التعليم تتراجع، والمشاريع الكبرى لا تترجم إلى وظائف أو أمن اقتصادي. ما عزز فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات للحكومية، وتنامي شعور بأن الزمن ليس في صفّه، وبالتالي تزايد الشعور بالميل المتزايد للهجرة (يعززه تصريحات بعض الوزراء بالبحث عن فرص عمل للكفاءات الأردنية خارج حدود الوطن)، أو الانسحاب من المجال العام، وهو ما يهدد العقد الاجتماعي.
ان مثل هذا الموضوع سبق وان حذر منه المفكر توكفيل "الخطر على الأمم ليس من قوة خصومها، بل من عجزها عن إصلاح نفسها". وهذا ما نراه اليوم، مشاريع تُستهلك سياسيًا وإعلاميًا، لكنها تترك أثرًا اجتماعيًا عكسيًا يتمثل في تنامي اللامبالاة، والإحساس بأن المستقبل ليس سوى تكرار باهت للماضي.
الأخطر من المشاريع التي لم توتي اكلها، هو غياب الشفافية والمحاسبة. في دول مثل فنلندا أو رواندا، شكّلت الشفافية ركيزة التحول، حيث تُقيَّم كل خطة بصرامة، ويُحاسَب كل مسؤول على النتائج لا على النوايا. الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي قال يومًا "أمة لا تجرؤ على محاسبة نفسها، ستُحاسبها الأجيال القادمة بقسوة".
الملك عبد الله الثاني لطالما تحدث بوضوح عن هذه المعضلة، مشددًا على أن الإصلاح الجاد لا يقوم على تلميع الواجهات، ووجّه بضرورة الانتقال من التنظير إلى التنفيذ، ومن الاستراتيجيات على الورق إلى إنجازات على الأرض، وبناء ثقة حقيقية بين المواطن والدولة. فقد أشار في أكثر من مناسبة إلى أن بقاء الأردن لا يقوم على الموارد فقط، بل على الكفاءات، وعلى الجرأة في مواجهة الفساد الإداري والمالي والقدرة على اتخاذ القرار، وعلى تحويل الوعود إلى حقائق ملموسة. هذه التوجيهات هي دعوة لإعادة تعريف العلاقة بين المشروع والنتيجة، بين الحاضر والمستقبل، وتكشف إدراكًا عميقًا لمعضلة الزمن في إدارة الدولة، ولا يكفي أن نملك الخطط، بل يجب أن نستثمر الوقت بفاعلية، وأن نحمّل المسؤولية لكل مقصر.
سؤال الأردنيين اليوم، هل يمكن أن نتحول من دولة مشاريع غير مكتملة إلى دولة نتائج ملموسة؟ الجواب لا يعتمد على العناوين الطموحة، بل على آليات التنفيذ، والمساءلة، والجرأة في مواجهة البُنى التي اعتادت العيش على الماضي.
الزمن ليس محايدًا، إما أن يكون في خدمة التنمية، أو أن يتحول إلى عبء يراكم الفشل. فالمستقبل، ببساطة، يبدأ من كيفية استعمال الزمن، كما عبّر الاقتصادي أمارتيا سن "التنمية هي حرية، والحرية تعني استثمار الوقت فيما يخلق فرصًا للناس".
إنّ رهان الأردن الحقيقي ليس في تكرار وصفات قديمة، بل في تأسيس عقد اجتماعي جديد يضع المواطن، يكون في مركز المعادلة. فالمستقبل الأردني لن يُقاس بكمية الخطط المكتوبة، بل بمدى تحويل السنوات القادمة إلى رصيد منجزات، واليوم نحن بأمس الحاجة الى اعادة تعريف زمننا، من مورد ضائع في البيروقراطية والانتظار، إلى أداة لبناء الثقة، ليصبح التعليم قاطرة للتنمية، والمياه مشروعًا للإنقاذ، والطاقة مصدرًا للاستقلال، والسليكا نموذجًا للتحول الصناعي. فالتنمية ليست شعارًا، بل هي فنّ استعمال الزمن بكفاءة، بما يعيد للشباب الأمل، وللمجتمع الثقة، وللدولة قوتها.
المستقبل يبدأ اليوم، والزمن، كما قال تشرشل "لا ينتظر من يتردد"، فلا مكان فيه للمتردد في عالمٍ سريع التحول، وبالتالي لن ينتظر طويلًا، فإما أن نصنعه بأدوات جديدة، أو نظل نعيش في زمنٍ مستعمل، وندور في حلقة مفرغة من الخطط والوعود.