مغالطات في توصيف العشائرية

نبض البلد -

حاتم النعيمات

عادة ما تقع التيارات الفكرية والسياسية في دوامة المثالية واليوتوبيا، وقد أتفهم سعي أي منظومة سياسية إلى استخدام الشعارات الحالمة لكسب التأييد، لكن في المقابل، فلا أستطيع أن أتغاضى عن أن الواقعية فكرة جاذبة أيضًا رغم قلة من يؤمنون بها.

بعد مشاجرة الجامعة الأردنية، وهي ظاهرة مدانة قطعًا، تعالت الأصوات التي تحاول تشخيص أسباب ودوافع هذا الحدث، وذهب البعض -كالعادة- إلى إلصاق عموم العنف -ليس المشاجرة فقط- بمنظومة العشائر الأردنية، وقد استند هؤلاء في القاعدة الأولى من الاستدلال إلى "مثالية خبيثة" ترى أن المشاجرات هي فعل "غير طبيعي" في المجتمع ودلالة على خلل، وهذا غير صحيح علميًا بطبيعة الحال، فعلم الاجتماع يعرف الاحتكاكات والتنافس بأنها جزء من الطبائع الثابتة في "تطور" المجتمعات. وبعد أن ثبّت هؤلاء هذه القاعدة الاستدلالية الخاطئة بنوا عليها قاعدة أخرى تحصر العنف بالعشائر، فتكون النتيجة أن العشيرة هي مصدر العنف في الأردن، ويكون الحل بناءًا على ذلك هو تذويب هذه المنظومة للعيش في استقرار مثالي!

إذا افترضنا حسن النية، سيكون حديث هؤلاء من باب عدم إدراكهم لدور العشيرة، نتيجة لتشبع أدمغتهم بصورة نمطية تظهرها كيانًا أوليًا يسعى للخروج على القانون، وهذه الصورة طُبعت في الذهنية العامة نتيجة لظروف إقليمية ولخارطة سياسية استهدفت الدولة الأردنية وجوهرها المتمثل في العشيرة.

ولعلي أستطيع أن أسأل في هذا السياق عدة أسئلة ومنها: من قال أن العشيرة هي نقيض القانون والنظام؟ وكيف يكون ذلك وهي التي صاغت قانون الدولة الأردنية الحالي عبر عقود؟ وهل تريدون أن ننسى أن تأسيس الأردن الحديث كان بفعل اتفاق عشائري جاء امتدادًا لإدراك عميق لوضع العالم مطلع القرن الفائت؟

يعرف الأردنيون جيدًا ألا تناقض بالمطلق بين العشيرة الأردنية والدولة لأسباب كثيرة أهمها: أولًا، أن الدولة ذاتها مكوَّنة من العشيرة، ولا يمكن للشيء أن يناقض نفسه، هذه حقيقة تثبتها طبيعة تكوين المؤسسات الرئيسية كالجيش والأمن والوزارات. ثانيًا، أن العشيرة هي مؤسسة قانونية بحد ذاتها؛ فالعرف العشائري يضع قواعد صارمة تنظم جميع التفاعلات الداخلية ابتداءً من طريقة شرب القهوة إلى أصول فض النزاعات الكبيرة من خلال القضاء العشائري، وأقصد هنا أن أقول إن العشيرة مؤسسة تولّد النظام بشكل سليقي ولا تعاديه، بالتالي لا يمكن تعريفها كضدٍ له.

بصراحة، لم يعتمد المترصدون للعشيرة الأردنية على أي شيء علمي أو منطقي، ولو تأملوا تاريخ الأردن لوجدوا أن العشيرة أنتجت عشرات الثورات الصغرى والكبرى ضد الأتراك، وأدركت مبكرًا الخطر الصهيوني فأنهت محاولات استيطانية يهودية على ضفاف نهر الزرقاء في سبعينيات القرن التاسع عشر، وتحركت ضد الهجرات اليهودية إلى فلسطين في عشرينيات القرن الفائت، وتفهمت ظروف المنطقة وتقاسمت قوتها مع كل من لجأ إلى وطنها الذي بنته بوعي بأهمية قيام دولة حديثة. لذلك، من المجحف اليوم أن توصف العشيرة الأردنية بأنها كيان غير مُدرك للواقع وواجهة للتفكير الجمعي غير العاقل.


يقول علم الإدارة أن مقاييس نجاح عمليات تنظيم المجتمعات لا تهتم كثيرًا بالطرائق بقدر ما تهتم بالنتائج أولًا، وبأعلى نسبة رضا من قبل من يقع عليهم فعل الإدارة ثانيًا، والمنظومة العشائرية في الأردن تحقق هذين الشرطين فعليًا؛ فقد أسست هذه المنظومة دولة حديثة مستقرة آمنة أصبح عمرها الآن 104 سنوات، بالإضافة إلى مستوى جيد جدًا من الرضا الشعبي، لذلك لا قيمة اليوم لرأي فلان في ظاهر العملية الإدارية التي تنفذها العشائر أمام النتائج الواقعية.

على الهامش، فالمنظومة العشائرية والقبلية ما زالت موجودة في دول أوروبية كألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها، ولم تكن أبدًا من مثبطات التطور كما يعتقد البعض، بل ساهمت في بناء تلك الدول في مرحلة ما، وأقصد أنها محرّك من محركات نمو المجتمعات.

الواضح أن هناك من يحاول تهشيم بُنية المجتمع الأردني من خلال تشويه صورة أساسه العشائري، ولهذا التهشيم فوائد كثيرة (من وجهة نظر هؤلاء)، منها تذويب الهوية الوطنية الأردنية وتطويعها لتقبل أي مشروع كالتوطين والتهجير، ولتحييد دور العشيرة عن الرقابة على سلوك مراكز القوى الاقتصادية التي تريد تسليع كل شيء، لذلك، فالهجوم على هذه المنظومة لا يمكن أن يكون بريئًا على الإطلاق رغم أن البعض يتحدث عن جهل، وعليه فنحن مطالبون أن نستمر في الدفاع عنها، فلا يوجد شعب عاقل يتنازل عن مكتسباته لأن هناك رأي قادم من فئة جاهلة أو حاقدة.