نبض البلد -
حاتم النعيمات
من يتأمل المشهد السوري يدرك أن ثمة تنافسًا صامتًا، لكنه عميق الأثر، بين تركيا وإسرائيل على النفوذ والمصالح. هذا التنافس يتجاوز حدود التكتيك العسكري أو الاقتصادي، ليشكّل تهديدًا مباشرًا لإعادة بناء الدولة السورية ولمحاولة دمشق استعادة موقعها الطبيعي في المنظومة العربية.
في الفترة الأخيرة ارتفعت وتيرة التراشق بالتصريحات، فقد اعترف نتنياهو لأول مرة بما سماه "الإبادة الجماعية للأرمن" عام 1915 من قبل العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، واتهمت تركيا إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في غزة (وهذا اتهام صحيح بالطبع).
التواجد التركي في شمال سوريا لا يقتصر على العنوان الأمني أو العسكري، بل يمتد إلى استثمارات نمت بشكل لافت، وإلى تحالفات محلية مع بعض الجماعات، ومحاولات لزيادة عدد القواعد العسكرية التركية باتجاه وسط سوريا. وبذلك، أضحى المشروع التركي يملك ما يكفي من المكاسب ليخوض لأجلها صدام مع إسرائيل بغض النظر عن شكله.
في المقابل، نجحت تل أبيب في تكريس ما يمكن تسميته "حق الاستباحة” في سوريا، كما كرّسته في جبهات أخرى - مثل لبنان وغزة إلى الضفة والعراق واليمن وإيران ومؤخرًا الهجوم على الدوحة- عبر سلسلة ضربات دقيقة لمخازن السلاح ومواقع الجيش السوري السابق، وعبر ضرب مخازن سلاح تركي في الشمال، أي أن إسرائيل تحاول جعل الساحة السورية مفتوحة أمامها عند الحاجة.
طبعًا، الرسالة واضحة ومفادها أن ما جرى ضد النفوذ الإيراني يمكن أن يُعاد تطبيقه ضد النفوذ التركي. ولعل ما حدث في نيسان الماضي، حين استهدف الجيش الإسرائيلي موقعًا كان مخصصًا لبناء قاعدة تركية، يكشف حدود التوتر القائم. ومن هنا جاء إنشاء خط عسكري ساخن بين أنقرة وتل أبيب – كما أشارت تقارير الفايننشال تايمز – لتجنب الانزلاق إلى مواجهة مباشرة.
لكن ما بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله، فإسرائيل خرجت من ذلك التاريخ بدعم أمريكي هائل، وبشعور متورّم بالقدرة على إدارة جبهات متزامنة، وتركيا أيضًا أعادت تشكيل أدواتها، لتصبح أكثر جرأة في الاستثمار بالعمل المسلح والجماعات في سوريا على غرار ما يحدث في غرب ليبيا. هذا يعني أننا أمام احتمال مواجهة مفتوحة في أي لحظة بين مشروع تركي يقوم على "الجهادية الجديدة"، ومشروع إسرائيلي تمرّس على التكيف مع استباحة عدة جبهات تحت ذرائع الأمن والانتقام.
المقلق أن هذه المواجهة لن تكون مباشرة بالضرورة، بل عبر وكلاء ينتشرون على الأرض السورية؛ بعضهم يدين بالولاء لتركيا، وبعضهم الآخر يرتبط بإسرائيل كمكون ديموغرافي ولو من وراء الستار، عندها تصبح سوريا مسرحًا لحرب جديدة بالوكالة، وهو السيناريو الأخطر على المنطقة بأسرها.
لهذا، تبرز الحاجة إلى تنسيق عربي حقيقي يضمن عدم انزلاق الدول العربية نفسها إلى صراع داخلي على الساحة السورية، وفي الوقت ذاته يواجه التفاعلات التركية–الإسرائيلية المتسارعة. الأردن، على سبيل المثال، اختار تعزيز العلاقات مع دمشق بواقعية، وهو خيار منطقي بحكم الجوار، لكنه يحتاج لتشكيل فعل جماعي إقليمي متماسك قادر على موازنة النفوذ التركي والإسرائيلي معًا. حتى التنسيقات الأمنية والدبلوماسية القائمة مع أنقرة ودمشق تبقى من دون ضمانات في ظل تقلب السياسة التركية في عهد أردوغان، وفي ظل الاندفاع الإسرائيلي الراهن.
مؤخرًا، قام وزير خارجية الأردني بزيارة مهمة لدمشق التقى خلالها وزير الخارجية السوري والمبعوث الأمريكي توماس براك، وفي مؤتمر صحفي عقد هناك، شدّد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على أن الموقف الأردني يشكّل دعامة أساسية لجهود بلاده في خدمة المصلحة الوطنية، واصفاً هذا الدعم بأنه "مساندة أخوية” لمساعي استعادة الاستقرار في السويداء، والسويداء تعتبر اليوم صاعق تفجير تسيطر تملكه إسرائيل.
الأردن يريد أن يمنع المواجهة التركية الإسرائيلية المحتملة ببناء ثقة مع الحكومة السورية الجديدة من خلال الدعم الديبلوماسي والخبرة السياسية، ومن خلال فهم الدور التركي والسعي لضبطه من خلال خماسية عمان، وكل ذلك بحضور أمريكي.
الخلاصة أن السلوك الإقليمي لكل من تركيا وإسرائيل لا يمكن الركون إليه، لا سيما إذا كانت ساحة الصراع خارج أراضيها. هؤلاء يملكون رفاهية إدارة الحروب عن بعد وعبر وكلاء، ولا يأبهون بتحول منطقتنا إلى ساحة دائمة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، بالتالي فالأردن يقف للأسف مرة أخرى في خانة الخاسر الأكبر تمامًا كما في حالة العلاقة مع القضية الفلسطينية.