ضربة الدوحة: اختبار قاسٍ للوساطة

نبض البلد -
الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في لحظة دقيقة من التفاوض حول صفقة الاسرى، شهدت الدوحة هجومًا استهدف قيادات من حماس، ما قلب ميزان الثقة وأعاد طرح السؤال حول مدى أمان الوسطاء وفعالية الضمانات الدولية، الحدث لم يكن مجرد عملية أمنية، بل اختبارًا حقيقيًا لدور قطر كوسيط ولقدرة الأطراف على ضبط التصعيد.
الهجوم أعاد تشكيل لوحة التوازنات في لحظة تفاوضية حرجة، إذ تحوّل الملف من مسار "هندسة صفقة” إلى نقاش أوسع حول أمن الوسطاء ومصداقية الضمانات الدولية، لم تهز الضربة الثقة بين الأطراف فحسب، بل فتحت حوارًا خليجيًا ودوليًا حول حدود الردع، ومَن يمتلك مفاتيح خفض التصعيد حين يصبح الوسيط نفسه هدفًا، الإدانة التي أصدرها مجلس الأمن ، تعكس إدراكًا أمميًا بأن ضرب الوسيط يعني ضرب آخر جسر قائم نحو التهدئة.
أثر الضربة على وساطة الأسرى كان مباشرًا ومركبًا معًا، مباشر لأنها قوّضت بيئة الثقة الضرورية للتفاوض، ورفعت كلفة الانخراط السياسي لقطر التي تحملت منذ أشهر عبء استضافة وتيسير قنوات الحوار، مركب لأنها بدّلت حسابات الأطراف: إسرائيل أرادت على الأرجح تحسين "موقعها التفاوضي” عبر استهداف رؤوس سياسية، لكن النتيجة قد تكون عكسية إذا شدّدت الدوحة معاييرها الأمنية والسياسية وأصرت على ضمانات علنية قبل أي جولة جديدة، الرسائل القطرية أكدت أن استمرار الوساطة مرتبط بتكلفة أمنية لا يمكن تجاهلها، وبسؤال أوسع عن جدوى الانخراط إذا كان ثمنه نقل الحرب إلى أراضيها، وفي المقابل، تتزايد أصوات إسرائيلية وأمريكية تحذر من أن أي مساس بمصداقية الوسيط قد يقتل الطريق الوحيد المتاح لإخراج الأسرى ووقف النار.
على خط العلاقات الأردنية–القطرية–الأمريكية، بدا موقف عمّان واضحًا: إدانة للهجوم بوصفه انتهاكًا فاضحًا لسيادة دولة عربية ولمنطق الوساطة، وربط أمن قطر بأمن الأردن، مع توظيف منصة مجلس الأمن لإيصال رسائل سياسية وقانونية حادة، الأردن يرى في استقرار الخليج شرطًا أساسيًا لبقاء خطوط التمويل والطاقة والتجارة، ويعتبر نجاح الوساطة السبيل الأقل كلفة لخفض التوترات التي تؤثر على اقتصاده وحدوده، مداخلة أيمن الصفدي وزير الخارجية في الأمم المتحدة أظهرت تصعيدًا محسوبًا، مع تحميل واضح للمسؤولية والدعوة إلى محاسبة منتهكي القانون الدولي، دون قطع الجسور مع الشركاء الغربيين.
أما واشنطن، فواجهت مفارقة واضحة: دعم أمني وسياسي لإسرائيل من جهة، وحاجة ملحّة للحفاظ على قناة قطرية فاعلة من جهة أخرى، الإدانة الأمريكية في مجلس الأمن تعكس إدراكًا خطورة كسر أدوات التهدئة، وتوجه رسالة مزدوجة: لإسرائيل بأن توسيع المعركة إلى دولة وسيط يضر بمصالحها، وللخليج بأن واشنطن ما زالت تعتبر أمن شركائها جزءًا من معادلة الاستقرار، استعادة الثقة لن تكون خطابية، بل عملية، عبر ضمانات سياسية وأمنية تحمي الوساطة وتعيد الأطراف إلى طاولة صفقة الأسرى.


في الأسابيع المقبلة تلوح ثلاثة مسارات محتملة:
1.احتواء بضمانات: تثبيت تفاهمات أمنية صامتة تُجنب الأراضي القطرية أي استهداف جديد، مقابل استمرار قطر بدورها وتحديد روزنامة زمنية لصفقة الأسرى مع إجراءات تخفيف إنسانية، ما يعيد تعويم الوساطة تدريجيًا دون ضجيج سياسي.
2.استراحة مشروطة: تنكفئ الدوحة مؤقتًا لإعادة تقييم أمنها الداخلي وتحالفاتها، مع دعم مصر والأمم المتحدة وضمانات أمريكية مكتوبة، مع إبقاء القنوات مفتوحة لاستئناف الوساطة عند تراجع المخاطر.
3.تعطيل وتداعيات: تصلب مواقف إسرائيل وحماس يؤدي إلى تآكل فرص الصفقة، وتمدد الحرب سياسيًا إلى محيط الخليج، مع ارتدادات على الشحن وأسعار التأمين وثقة المستثمرين، ويستدعي هذا تصعيدًا عربيًا ودوليًا لدفع كلفة أعلى على حكومة نتنياهو.
ترجيحي أن يُدفع نحو المسار الأول بصورة متدرجة، لأن كل الأطراف بحاجة إلى حل يخفف النزيف السياسي والإنساني دون مقامرة بتوسيع ساحة الحرب. نجاح هذا المسار مرهون بثلاثة شروط: ضوابط أمنية تحمي الوسيط، هندسة صفقة تراتبية تبدأ بتبادل جزئي وتتوسع لاحقًا، وخط اتصال أمريكي عربي صلب يضمن التنفيذ ويُلوّح بكلفة حقيقية لمن يفشل الاتفاق، عندها فقط يتحول هجوم الدوحة من نقطة انكسار إلى صدمة تأسيسية تعيد ترسيم قواعد الوساطة وحدود القوة في الإقليم.
على المدى القريب، ستقاس جدية المجتمع الدولي بترجمة الإدانة إلى خطوات ملموسة محددة زمنيًا تعيد ضبط قواعد الاشتباك وتمنح الوساطة غطاءً سياسيًا وأمنيًا واضحًا، التصويت الكاسح في 12 أيلول/سبتمبر لصالح إعلان يدفع نحو حل الدولتين، مع دعم خليجي كامل، يشكل فرصة نادرة إذا استُثمرت بسرعة في ترتيبات انتقالية داخل غزة والضفة ونشر بعثة استقرار مؤقتة تقلل الاحتكاك وتعيد الاعتبار لدور السلطة الفلسطينية.
أما الأردن، فالمستقبل يتحدد بقدرته على مزج الدبلوماسية الصلبة مع الإصلاحات الاقتصادية التي تخلق وظائف فعلية وتحمي سلاسل الإمداد من صدمات البحر الأحمر، مراجعات صندوق النقد والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار تظهر قاعدة كلية متينة، لكنها تحذر من بطالة تتجاوز 21%، ما يستدعي تسريع مشاريع الماء والطاقة والربط الإقليمي، وتوسيع التدريب المهني والتقني، هنا تبرز قيمة التموضع السياسي: إدانة مجلس الأمن المدعومة أمريكيًا لضربة الدوحة، ورسائل الصفدي الحادة في نيويورك، منحتا غطاءً عربيًا دوليًا لتثبيت قاعدة "لا مس بالوسطاء"، وهي قاعدة أساسية لحماية الاقتصاد الوطني واستثمار أي هدنة مستقبلية في قفزات سياحية وصناعية وخدمية تقلل البطالة تدريجيًا.
و هكذا تتحول ضربة الدوحة من حدث أمني إلى نقطة محورية تعيد رسم قواعد الوساطة، تحدد حدود القوة، وتضع أمام جميع الأطراف مسؤولية واضحة: حماية الوسيط ليست رفاهية، بل شرط أساسي لاستقرار الإقليم وتحقيق نتائج ملموسة على الأرض.