نبض البلد -
حاتم النعيمات
واضح أن إسرائيل ذهبت إلى أبعد مدى في مشروعها القائم على الحسم بالقوة خصوصًا في غزة أو على الأقل لفرض وضعية تفاوضية متطرفة، لكنها في الوقت نفسه تشهد حراكًا داخليًا مهمًا يجب ألا نستهين به، لذلك فإن المتابع للشأن الإسرائيلي يلاحظ أن هناك حالة سياسية وإعلامية جديدة قادرة على انتاج أسئلة عميقة عن جدوى هذه الحرب التي أصبحت من طرف واحد، وعن إمكانية أن تستمر دولة في إدارة صراع مفتوح إلى ما لا نهاية مع شعب أعزل، في ظل ما يشبه العزلة الدولية غير المسبوقة بسبب الاتهامات بارتكاب جرائم حرب وإبادة وتهجير جماعي وإعلان المجاعة رسميًا في غزة.
الحرب وضعت جميع مكونات سكان دولة الاحتلال أمام استحقاقات مهمة مرتبطة بعناوين مثل استدعاء آلاف من قوات الاحتياط، وبتباطؤ الاقتصاد، والاحتجاجات المستمرة لعائلات الرهائن، ناهيك عن الضغط المتزايد لفهم جدوى الحرب ذاتها. أضف إلى ذلك كله، أن الداعمين لإسرائيل دوليًا، ومن ضمنهم أقرب الحلفاء في واشنطن وأوروبا، لم يعودوا قادرين على تبرير المشهد الإنساني الكارثي في غزة. محصلة هذه الضغوط مجتمعة تعيد إحياء النقاش القديم الجديد حول خيار الدولتين.
ما يجري في إسرائيل اليوم هو بداية مراجعة داخلية، ولو كانت بطيئة، فالتيار المعتدل، الذي طالما جرى تهميشه لصالح اليمين المتشدد، بدأ يجد ما يستند إليه، فهذا التيار يرى أن الحرب فشلت في تحقيق وعد "النصر الكامل” حتى الآن، وترى أن هناك تكلفة مادية وسياسية تتعلق بتجميد الحراك السياسي والقضائي تحت حجة حالة الطواريء، واهتزاز صورة إسرائيل في العالم، وحتى داخل المؤسسة الأمنية، فقد ظهرت أصوات تقول إن إبقاء غزة تحت الحصار والدمار سيحوّلها إلى بؤرة دائمة للتطرف (رغم انخفاض شعبية حماس بين الغزيين)، وأن الحل الواقعي الوحيد يكمن في فتح مسار سياسي يُفضي إلى دولة فلسطينية كحل استراتيجي.
ولا بد هنا من أن نعرّج على الحالة الإعلامية في إسرائيل، حيث نُشرت مادة مهمة على موقع (العين السابعة) الذي يعرّف نفسه كمنصة مستقلة غير خاضعة لإملاءات السلطة ولا لمصالح رأس المال، ويقدم بموجب ذلك نقدًا للإعلام نفسه من منطلق بحثي. وتتحدث المادة عن عدة تكتيكات يستخدمها اليمين الإسرائيلي لتمرير واطالة أمد الحرب يمكن تلخيصها بالتالي: أولًا، حصر الرواية بما يقوله الجيش، ثانيًا، السعي الدائم لتجميل الحرب خصوصًا في حال اقتراف الجرائم، ثالثًا، تحويل أي نقد خارجي لهجوم على إسرائيل ومعاداة للسامية، بالإضافة إلى عزل وإبعاد جميع الأصوات الناقدة عن الإعلام، كشف هذه التكتيكات وتفنيدها بهذه الطريقة العميقة من قبل مؤسسة تعتمد البحث العلمي يفيد بتراجع حالة الاجماع على الحرب التي ظهرت في البداية.
اشتداد عود النقد الإعلامي في إسرائيل يشير إلى أن القادم لن يكون بسوء الحاضر على أقل تقدير، خصوصًا أن ما تفعله حكومة نتنياهو يمكن اعتباره ذروة عسكرية وسياسية غير مسبوقة، وموقع (العين السابعة) المحايد ليس لوحده في هذه الجبهة، وهو جزء من منظومة إعلامية معارضة بدأت تتمكن في المشهد الإعلامي الإسرائيلي، إذ تبرز أيضًا خمس منصات تُعرف بمعارضتها لليمين السياسي وتوجهاته القومية والدينية مثل: صحيفة (هآرتس) التي تُعد الصوت الليبرالي الأبرز، وتقدم تغطية نقدية للاستيطان وسياسات الاحتلال، ومجلة (+972 Magazine) التي تنشر بالإنجليزية وتضم صحافيين إسرائيليين وفلسطينيين، وتهتم بحقوق الإنسان وآثار الاحتلال بتوجهات يسارية، وإلى حد ما موقع (تايمز أوف إسرائيل) الذي يحوي -رغم طابعه الوسطي- مقالات تحليلية تنتقد اليمين المتطرف وسلوكه.
التوجهات الإعلامية مؤشر قوي على أن هناك حالة مراجعة في إسرائيل، والإعلام هو إنعكاس للتوجهات ومؤشر على صعود/عودة تيارات معتدلة في إسرائيل، كنتيجة طبيعية للانسداد الذي وصل إليه المشهد هناك. قد لا يتجسد هذا التغيير بين ليلة وضحاها، لكنه قد يتراكم ليضع الإسرائيليين أمام حقيقة لا يمكن إنكارها وهي ألا أمن بلا سلام، ولا بقاء بلا تسوية سياسية. وهنا قد يصبح حل الدولتين، الذي حاولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة دفنه منذ عهد رابين، ضرورة وجودية لإسرائيل قبل أن يكون حقاً مشروعاً للفلسطينيين.