نبض البلد -
حاتم النعيمات
يبدو أن بنيامين نتنياهو قد تبنّى في الآونة الأخيرة أسلوب "رفع سقف المطالب"، إذ انتقل في خطابه السياسي إلى طرح رؤى قصوى مثل فكرة "إسرائيل الكبرى” وتهديده باحتلال كامل قطاع غزة، وهي مطالب يدرك هو ودوائره الضيقة صعوبة تحقيقها على أرض الواقع. فلا يمكن أن يتماشى طرحه هذا مع "اتفاقيات إبراهيم" التي يتبناها نتنياهو ويلهث وراءها دائمًا. غير أن هذه المبالغة الاستراتيجية تمنحه هامشًا واسعًا للتفاوض، بحيث يبدو أي تراجع لاحق وكأنه تنازل كبير من قبله، بينما يكون الهدف الحقيقي أكثر واقعية وأقرب إلى التحقق، وهو ما يعكس تحوّلًا في تكتيكاته التفاوضية نحو سياسة تقوم على المبالغة أولًا ثم المقايضة لاحقًا.
خلال لقائه مع القناة 24 الإسرائيلية، أقر نتنياهو -الذي كان يتحدث بعاطفة روحانية واضحة- بإيمانه بفكرة "إسرائيل الكبرى" وظهر على مذيع البرنامج الاستغراب، حيث أعاد السؤال مرتين للتأكد من إجابة نتنياهو، وهنا مربط الفرس، إذ أن الباحث في تفاصيل الخارطة السياسية والأيدولوجية داخل إسرائيل سيعرف دون أدنى جهد أن هذه الفكرة ليست محل اتفاق بين جميع التيارات السياسية الإسرائيلية(!).
إن مصطلح "إسرائيل الكبرى" هو تعبير سياسي–أيديولوجي يشير إلى رؤية توسعية للحدود الإسرائيلية، مستمدة من تفسيرات دينية–تاريخية لبعض النصوص التوراتية ومن قراءات قومية–صهيونية.
من الناحية الجغرافية، لا يوجد تعريف موحَّد متفق عليه داخل إسرائيل؛ فبعض التفسيرات الدينية التقليدية تعتبر أن حدود "إسرائيل الكبرى” تمتد من نهر النيل غربًا إلى نهر الفرات شرقًا (وفقًا لنصوص في سفر التكوين)، بينما التيارات القومية–الصهيونية في القرن العشرين غالبًا حددتها بالأراضي الواقعة تحت الانتداب البريطاني على فلسطين، وأحيانًا تشمل شرق الأردن، أو أجزاء من لبنان وسيناء والجولان.
لا تؤمن جميع التيارات السياسية الإسرائيلية بهذا المفهوم؛ فالتيار الديني–القومي (خصوصًا حركة غوش إيمونيم والمستوطنين) وبعض أجنحة اليمين المتطرف يتبنونها بدرجات متفاوتة، بينما ترفضه معظم التيارات اليسارية والوسطية باعتباره يتحدث عن مشروع غير واقعي سياسيًا وخطير على الطابع الديموغرافي لإسرائيل. لذلك فالسؤال الجوهري هو التالي: هل ترغب إسرائيل فعلًا بأغلبية سكانية عربية تحت حكمها؟
داخل إسرائيل، يُعد هذا المفهوم محل خلاف شديد؛ إذ يرى مؤيدوه أنه تحقيق لوعد تاريخي وديني، بينما يعتبره معارضوه عقبة أمام أي تسوية سياسية ويخشى كثير منهم أن يقود إلى عزلة دولية وصراع دائم.
المشكلة ليست هنا، المشكلة في من يستخدم مثل هذه التصريحات من أبناء جلدتنا بشكل يخدم غايات نتنياهو!. فلا يمكن عمليًا أن تستطيع إسرائيل أن تسيطر على ملايين الكارهين لها من الشعوب التي ستضمها إلى "إسرائيل الكبرى"، فهي لغاية اليوم ومنذ مؤتمر بال (المؤتمر الصهيوني الأول) الذي عُقد عام 1897 في سويسرا، لم تستطع فرض سيطرتها الكاملة على الضفة الغربية وقطاع غرة بشكل مستدام، فما بالك بأجزاء من الأردن ومصر ولبنان وسوريا العراق. لذلك فإن من يستخدم تصريحات كهذه على أنها قدر محتوم لا يرى المشهد بشكل واقعي.
التخادم مع سياسة "رفع سقف المطالب" التي يستخدمها نتنياهو في تنفيذ سياساته قد يكون بشكل عفوي بوصف إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة، وهذا النوع مبرر ومفهوم، وقد يكون خبيثًا للإيحاء بفشل السياسات العربية في التعامل مع القضية الفلسطينية (خصوصًا بالنسبة للأردن ومصر)، وهذا النوع يحتاج إلى علاج ومواجهة.
لنتفق أن الملاءة العسكرية والسياسية الأردنية أو/ و المصرية أصحبت معتبرة، فقد استفادت الدولتان من الاستقرار الداخلي ببناء جيوش قوية وآليات ديبلوماسية ذكية، لذلك فإن مشروع إسرائيل الكبرى هو مجرد وهم ولا يمكن تطبيقه إلا في أحلام نتنياهو ويمينه ومن يرغب به نكاية بالنظام العربي.
ثم من قال أن تفاصيل العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية (خصوصًا في العقد الأخير) تسمح بمثل هذا المشروع؟ فمنذ الولاية الأولى لباراك أوباما والعلاقات الإسرائيلية الإمريكية تتعرض للهزة تلو الأخرى، وحتى في فترة ترامب الأولى فقد وُئدت صفقة القرن في مهدها بجهد أردني-فلسطيني بالدرجة الأولى، حيث اضطر ترامب إلى استبداله بقرارات رمزية مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بالجولان تهدف إلى استرضاء أصوات اليمين الأمريكي لا أكثر، إذ لم تعترف بهذه القرارات أي دولة وازنة.
هناك شعرة فاصلة بين إفشاء الحذر من تصريحات نتنياهو وطموحات اليمين الإسرائيلي بحسن نية، وبين شهوة النكاية بالسياسة العربية المتّبعة في التعامل مع إسرائيل، فالنتائج تقول اليوم أن الحراك العربي والدولي ضد إسرائيل يتصاعد وما كان مؤتمر نيويورك الداعي لتنفيذ حل الدولتين الذي عقد قبل أسابيع إلا دليلًا على البدء في عملية محاصرة الطموحات الإسرائيلية، فكيف يُطلب منا اليوم إن نصدق تصريحات نتنياهو ويمينه المختل استجابة لتيار النكاية، ونتغاضى عن كل هذه الإشارات التي تفيد باحتمالية انكفاء مشروعه في الضفة وغزة؟
وللتأكيد، فأنا لا أدعو إلى الاطمئنان مطلقًا، بل على العكس فإن لهذه التصريحات دلالات تستوجب منا العمل على إنجاز ملف الدولة الفلسطينية مستغلين الزخم الإيجابي، إذ أن نشوء هذه الدولة يقطع الطريق على أي جنون صهيوني-توراتي قد يكون في المستقبل.