تراكم التناقضات في العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية.

نبض البلد -

حاتم النعيمات

رغم عمق العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن الأيام الأخيرة كشفت عن تصدعات قد تتوسع في حال تعمّقت الخسائر الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة على المدى المتوسط والبعيد، أو على الأقل، إذا قررت إدارة أميركية جديدة أن المصالح العامة لم تعد تتحقق من خلال الدعم غير المشروط للسياسة الإسرائيلية.

ومع أن إدارة ترامب اليميني الأمريكي الإنجيليكاني تعتبر حجر الزاوية للدعم المطلق لإسرائيل، إلا أن "إشارات" غير معهودة بدأت تصدر عنها فتصريحات ترامب الأخيرة بشأن "الجوع الحقيقي في غزة” لم تكن مجرد رد على سؤال صحفي، بل شكل من أشكال التنصل من الوزر الأخلاقي الذي لحق به بسبب دعم نتنياهو، فالجوع لا يمكن إخفاؤه تحت ردم البيوت المهدمة بالقصف، ولا يمكن تحميل مسؤليته لأي جهة غير الاحتلال الإسرائيلي، وتطال نيران جيش الاحتلال كنيسة هناك فتظهر الإدارة الأمريكية امتعاضها. وفي مشهد آخر، تنفذ إسرائيل ضربات في سوريا وتضرب أهدافًا حساسة كوزارة الدفاع السورية في ظل مطاوعة سورية غير مسبوقة للأمريكان لتقوم إدارة ترامب بتوبيخ نتنياهو وكف يده. ولا ننسى كيف أبدى ترامب غضبه من كثافة "غارات الساعات الأخيرة" من الحرب التي نفذتها إسرائيل على طهران، هذا ظواهر قد تزيد القناعة في أميركا بأن إسرائيل باتت تتحرك خارج حسابات واشنطن، وقد يدفع باتجاه إعادة تقييم لهذه العلاقة.

أحد أوجه التغيرات في النظرة الأمريكية كان "عدم الاعتراض" على مؤتمر نيويورك الأخير الذي عُقد لـ"تنفيذ" حل الدولتين، حيث اكتفت واشنطن بالغياب عنه هذه المرة رغم أنها حذرت من عقده قبل تأجيله قبل عدة أشهر، من تحذير إلى اكتفاء بعدم الحضور. والمؤتمر ذاته، كان خطوة مهمة باتجاه تثبيت فكرة أن حل الدولتين لم يمت، وأن هناك أصواتًا قادرة على تحريكه من جديد. والبناء على هذا المؤتمر يجب ألا يكون مجرد أمنيات، بل استراتيجية تواكب التغيرات المتوقعة في العلاقة الأميركية الإسرائيلية.


صحيح أن العلاقة الأمريكية الإسرائيلية تضرب قوية وأساسه أن إسرائيل تمثل قاعدة غربية متقدمة في الشرق الأوسط، لكن ومع ذلك فأهمية هذه القاعدة مرهونة ببقاء عناوين استراتيجية وجيوسياسية واقتصادية تهم واشنطن والموضوع ليس "شيك على بياض"، وفي حال تغيرت هذه العناوين (وهذا محتمل) فالأمور لن تبقى كما هي خصوصًا إذا دخل منافسين لإسرائيل في علاقتها مع واشنطن، أو تحول إسرائيل إلى عبء حقيقي مُزمن لا يمكن تحمُّله.

إزاء هذا التغير التدريجي في مناخ العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، يبقى السؤال الأهم عربيًا: هل نحن مستعدون لمرحلة ضعف هذه العلاقة؟ الجواب القصير التفاؤلي: نعم، لكن كيف؟

بتصوري، يجب أن يكون الفعل العربي سياسي واقتصادي في آنٍ واحد. فالعالم العربي، خصوصًا دول الخليج، يمتلك أوراق ضغط هائلة على طاولة واشنطن، استثمارات تفوق الترليونات من الممكن أن تتحول (ربما تحولت) إلى أدوات حوار وتأثير وضغط.
 
يضاف إلى ذلك، أهمية تعزيز ودعم الدور المركزي لكل من الأردن ومصر في العلاقة مع واشنطن والغرب، فالأردن الذي يتمتع بحضور ديبلوماسي قوي قادر على تغيير الانطباعات والمواقف بسهولة، وهو الأفضل في إيصال الرسائل المهمة دون ضجيج، وهو ما ثبت في عدة ملفات، أبرزها دفن صفقة القرن ومشروع التهجير، ودحض الراوية الإسرائيلية في بداية الحرب على غزة وتأليب العام ضد مظلمية نتنياهو. أما مصر، فهي قوة سياسية وعسكرية لا يمكن تجاوزها في أي صيغة تخص غزة أو الضفة أو حتى الأمن الإقليمي الأوسع.


الفرصة قائمة، أميركا ليست كتلة صماء، ولا هي محصنة ضد التغيير (ولا إسرائيل بالمناسبة)، ومواقف الرأي العام هناك بدأت تتحرك وتتغير، حيث أظهر أحد أهم استطلاعات الرأي ونُفذ من قبل مؤسسة (Gallup) بين 7 و21 أيار من هذا العام تراجع دعم الأميركيين للعمليات العسكرية الإسرائيلية، حيث أشارت نتائج الاستطلاع إلى انخفاض تأييد الأمريكيين للعملية العسكرية الإسرائيلية في غزة إلى 32%، وهو أدنى مستوى يُسجّل منذ بدء الحرب.

إشارات التحول أصبحت معتبرة، وعلينا أن نستعد بعقلانية وقوة وتنسيق حقيقي بين العواصم العربية المؤثرة لنقطف ثماره، والعلاقة بين واشنطن وتل أبيب قد تكون وثيقة، لكنها ليست مقدسة، ولا عصية على التغير، خصوصًا إذا عرفنا من أين تُمسك خيوط اللعبة.