حاتم النعيمات
شهد يوم الإستقلال لهذا العام احتفالات ضخمة وممتدة وغير مسبوقة، والمشهد لم يكن مجرد طقوس رسمية أو مظاهر احتفالية اعتيادية، بل هو تعبير عميق عن وعي وطني "جديد" تشكل نتيجة ظروف داخلية وخارجية، بعيدًا عن الضجيج والتشويش، ومن عمق المجتمع الأردني، هذا الاحتفال الكبير كان تعبيرًا عن وعي شبابي مهم ومُلفت. وعي رأيناه في كل علم مرفوع، وفي كل كلمة كُتبت على وسائل التواصل، هو نتاج جيل نقي لم يتعرض خلال نشأته للسموم الفكرية التي حاولت التنظيمات العابرة للحدود ضخها في عقول الأجيال السابقة طوال عقود مضت. جيل لم يتلوث بأسئلة غير أردنية، ولم يتبنى إجابات غيره، ولم يُستنزف بجهود تخدم الآخر على حساب مصالحنا، جيل نجا من تلك الحقبة التي كانت فيها السيادة للتحشيد الأيدولوجي والشعبويات والاتهامية.
هذا الشباب استطاع أن يصنع قنواته الثقافية والمعرفية الخاصة به، فاستغل العصر الرقمي في تفعيل مظاهر هويته، فلم يقبل بالإجابات الجاهزة وأخضع كل رواية لأدوات التحقق مثل البحث والذكاء الاصطناعي إلى أن وجد رواية الأردن الحقيقية، رواية الحق، بكل صراحتها وألمها ومجدها، فآمن أنها تستحق أن تُروى من جديد، لا بأقلام الآخرين بل بأقلام أردنية وطنية.
هناك من يعتبر هذا الكلام مجرّد عاطفة، وأقول أن ما رأيناه من تصاعد للحس الوطني أصبح ظاهرة لا يمكن إنكارها، فلا يوجد ما يجبر هذا الشباب على التعبير عن حبهم للأردن سوى أنهم أدركوا أن علاقتهم مع الوطن لا تخضع للحسابات النفعية أو السياسية، باختصار، لقد أفشل هؤلاء المحتفلين نظرية المنفعة التي لطالما حاول الكثيرون حشوها في علاقتنا مع وطننا.
صحيح أن هناك أرقامًا اقتصادية مزعجة وأهمها نسبة البطالة المرتفعة والتضخم، لكن ليكن بالحسبان أن جزءًا معتبرًا من هذه الأرقام نتج من ضعف انتماء كان يتراكم في بعض أروقة الدولة عندما كان بعض المسؤولين يعتبرون الأردن كيانًا وظيفيًا أقرب إلى الشركة التي يجب أن تربح منها ما استطعت، نعم، غير المنتمي لن يكون جزءًا من عملية البناء لأنه لا يقيم وزنًا لوجدانيات هذا البلد، ولا أستغرب أننا سمعنا في هذا السياق عبارة "حنفية وفاتحة" في وصف حالة الإدارة العامة في حقب سابقة.
لا أريد تضخيم مشهد الاحتفال أو تحميله أكثر مما يستحق، لكن صدقوني أن ما رأيناه هذا العام في الاحتفالات الوطنية ما كان ليظهر بهذه الهيبة والزخم إلا بعد تشكّل حالة خبرة وفهم لمنعطفات مرت بها البلاد في آخر عقدين تقريبًا، ولا أنكر هنا على السابقين وطنيتهم لكني أتحدث عن تطور وتعمُّق لهذه الوطنية بحكم الظروف المستجدة.
لهذه الروح التي رأيناها فوائد كبيرة، وعلى سبيل المثال، أريد منكم أن تتخيلوا ردة فعل دعاة مشاريع التهجير في إسرائيل أو أي عدو على هذه المشاهد التي تعبّر عن تمسك الأردنيين بوطنهم، من الجيد أن نعترف هذا المشهد لن يعجبهم. أما من أبدى امتعاضه من الاحتفالات في الداخل فهؤلاء (إن صحت نيتهم) لا يدركون البعد الاجتماعي-السياسي لمثل هذه المظاهر في دولة مهددة بمشاريع التوسع وضرب هويتها.
إن ما رأيناه من حالة وطنية استفز البعض الذي كان يستخدم وصوفات تشكك بمعنى الإستقلال الأردني ذاته طوال حياته، واليوم وجد حجة العدوان على غزة ليعبر عن انزعاجه من حالة الوعي المُلفتة، وكأن هذه الشخصيات كانت تدعم الاحتفال بالإستقلال قبل العدوان ولم تشتمه، وكأن الأردنيين يملكون ذاكرة ضعيفة لا تستطيع استدعاء مواقفهم القديمة. المشهد كان مؤشر قوة لا ضعف، وهذا بحد ذاته سيعجب من يدعم مَنَعة الدولة الأردنية، وسيغضب من لا يريد الخير لها.
نحن أمام لحظة وعي وطني استثنائية، يُشكر عليها كل من زرع بذرة الوعي، وكل من تحمل تبعات الفهم الخاطئ، والاتهامات المجانية، والتشكيك الذي لا يرحم.
هذا الزخم الكبير يجب أن يبنى عليه من قبل الدولة الأردنية، فهذه فرصة تاريخية لتأطير قوى سياسية وطنية تنتج منظومة إدارة شاملة قادرة على السير بنا بأمان في منطقة متقلّبة المزاج، أي أن هذه الحركة الشعبية الإيجابية لا بد وأن تكون مدعاة للتطوير وألا تعاملها الحكومات كرصيد مضمون يدعمها في كل قراراتها، هذه الحالة الشعبية مسؤولية كبيرة على صُناع القرار.