د.أيوب أبودية

عندما يلتقي العلم مع التاريخ الصحيح

نبض البلد -
د. أيوب أبودية

في كثير من الأحيان تُروى الأحداث التاريخية بناءً على شهادات وأخبار ونصوص وطموحات شخصية وسلطوية، لكن قوة التاريخ الحقيقية تتضاعف عندما تلتقي بالسجلات العلمية التي تؤكد الوقائع أو تنفيها. عند هذه النقطة بالذات يتشكل فهم أكثر صلابة وموثوقية للماضي، إذ يصبح التاريخ ليس مجرد سرد، بل بحثًا دقيقًا تتقاطع فيه المناهج الإنسانية مع أدوات العلم التجريبي.

من أبرز الأمثلة على هذا الالتقاء علم الآثار، إذ أعاد العلم تشكيل فهمنا لحضارات عديدة. فعلى سبيل المثال، ظلّت مدينة طروادة لوقت طويل أسطورة من أساطير هوميروس، حتى كشفت الحفريات التي أجراها شليمان ثم علماء لاحقون عن بقايا مدينة حقيقية متعددة الطبقات، بعضها دُمّر بالحروب والحرائق، مما أعاد الاعتبار إلى أن جزءًا من الأسطورة له جذور تاريخية.

وفي مجال آخر، قدّم علم المناخ القديم (Paleoclimatology) قراءة جديدة لأحداث تاريخية لطالما نُسبت إلى عوامل سياسية أو عسكرية فقط. فمثلاً، ساعد تحليل حلقات الأشجار وطبقات الجليد في توثيق موجات جفاف شديدة في الشرق الأوسط خلال القرن الثالث قبل الميلاد والقرون الأولى الميلادية، ما ألقى ضوءًا جديدًا على أسباب هجرات واسعة مثل انهيار مملكة الأنباط أو تحولات طرق التجارة. كذلك أسهمت دراسات البراكين في فهم كارثة بومبي جنوبي روما، وحددت بدقة تاريخ ثوران فيزوف سنة 79م عبر مقارنة طبقات الرماد بالتأريخ بالكربون المشع، مصححةً تواريخ كانت تُكرر في الكتب دون تدقيق.

أما التحليل الجيني (DNA) فقد صار اليوم أحد أكثر أدوات العلم تأثيرًا في إعادة كتابة التاريخ. إذ أثبتت دراسات الحمض النووي مثلاً أن الفايكنغ لم يكونوا شعباً متجانسًا عرقيًا كما صُوِّر، بل تبيّن وجود أصول مختلطة من أوروبا الشرقية والجنوبية وحتى آسيا، ما يعكس شبكات تواصل واسعة تتحدى الصور النمطية. وبالمثل، كشفت دراسات الجينوم على مومياوات مصرية أن سكان وادي النيل حافظوا على استمرارية جينية كبيرة على مدى آلاف السنين، خلافًا لادعاءات تأثرهم الهائل بغزوات أجنبية متكررة. كذلك أثبت العلم الجيني بأن يهود أوروبا لا علاقة لهم بفلسطين أو السامية.

وفي بعض الحالات، يأتي العلم لينفي روايات ترسّخت طويلًا. فعلى سبيل المثال، أثبتت تقنيات التأريخ الحديثة أن حجارة ستونهينج في بريطانيا نقلت قبل آلاف السنين بواسطة تقنيات بشرية مبتكرة، وليس عبر قوى خارقة كما ادعت الأساطير؛ وكذلك الحال في بناء الأهرامات في مصر وشرقي آسيا ووسط أميركا. كما كشفت دراسات الجيوفيزياء أن بعض المدن المفقودة المذكورة في المصادر القديمة لم توجد أصلًا، بل كانت نتاج مبالغات جغرافية.

وهكذا، يُظهر هذا التزاوج بين العلم والتاريخ أن الماضي ليس نصًا ثابتًا، بل رواية تتجدد كلما تطورت أدوات البحث. فالعلم يزودنا بعيون جديدة وادراك أوضح واستطالة لحواسنا الأخرى نفهم من خلالها الوقائع، بينما يمنح التاريخ هذه المعطيات سياقها الإنساني والاجتماعي والسياسي. وعندما يتقدمان معًا، يقترب الإنسان أكثر من الحقيقة، ويصبح فهمه للماضي أكثر شفافية ودقة وعمقًا.