نبض البلد -
حاتم النعيمات
حين أصدر (جون ميرشايمر) و (ستيفن والت) كتابهما الشهير "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية” عام 2007، أحدثا صدمة في واشنطن، فالكتاب يفيد باختصار بأن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ليست دائماً انعكاساً للمصلحة القومية للولايات المتحدة، بل كثيراً ما تكون انعكاساً لقوة ضغط منظمة تُعرف باللوبي الإسرائيلي، وعلى رأسه الـ (AIPAC)، وأورد هنا واحدة من أهم العبارات التي سردت في الكتاب وهي "السياسة الأميركية تُفَسَّر بشكل أفضل من خلال تأثير اللوبي الإسرائيلي، أكثر مما تُفَسَّر عبر المصالح الاستراتيجية أو القيم المشتركة”.
هذا اللوبي استطاع لعقود أن يفرض أجندته في البيت الأبيض والكونغرس، مستخدماً المال السياسي والإعلام ومراكز الفكر بالإضافة إلى المظلمية التاريخية وسلاح التخوين واتهام معارضي إسرائيل بمعاداة السامية.
لكن إذا كان هذا الكلام صحيحاً في بداية الألفية، فاليوم – وبعد مرور ما يقارب العقدين – يمكننا القول إن الهيمنة "المطلقة" للوبي الإسرائيلي بدأت تتعرض للتآكل، ولأكون دقيقًا، فهذا التغيير لم ولن يحدث بين ليلة وضحاها، لكنه بالتأكيد أصبح ملموسًا مع صعود قوى جديدة، ومع تحولات جيوسياسية كبرى.
صحيح أن ترامب -على سبيل المثال- منح إسرائيل ما لم يمنحه أي رئيس أميركي آخر مثل الاعتراف بالقدس عاصمة، ونقل السفارة، والسكوت عن المستوطنات، لكن في الوقت ذاته، ترامب لم يكن أسير الـ (AIPAC) بالنمط المتعارف عليه، بل كان يتعامل مع الجميع بعقلية الصفقات، فالرجل يبحث عن إنهاء الحروب بجدية واضحة مشفوعةً بطموح الحصول على جائزة نوبل للسلام، ويضغط باتجاه إنهاء واحدة من أهم فرص نتنياهو في فرض واقع ديموغرافي في غزة والضفة، واليوم نراه يريد تغيير "خصائص" المؤسسة العسكرية الأمريكية لصالح فكرة "فرض السلام بالقوة" وهذا بطبيعة الحال لا يتماشى مع طموحات اليمين الإسرائيلي الذي لا تريد السلام بأي طريقة. ترامب يوزّع المكاسب وفق حساباته الخاصة، لا وفق أجندة لوبي واحد خصوصًا بعدما رأينا نواة للوبي خليجي عربي بدأ يفرض رأيه في المنطقة عبر تغيير القرارات من واشنطن نفسها (على سبيل المثال: قمة نيويورك ومقترح إنهاء حرب غزة). باختصار، في لحظات معينة، تبدو الإدارة الأمريكية الحالية وكأنها تتمرد حتى على المؤسسة التقليدية للوبي الإسرائيلي، فارضة معادلة جديدة مضمونها أن إسرائيل لها مكانها، لكن ليس بالضرورة أن تكون صاحبة الكلمة الفصل في واشنطن.
الولايات المتحدة تعرف أن إسرائيل أحياناً تورطها في صراعات لا تخدم المصالح الأميركية المباشرة، و (ميرشايمر) و (والت) قدّما مثالاً صارخاً حين أشارا إلى أن اللوبي الإسرائيلي كان من أبرز الدافعين نحو غزو العراق عام 2003، وهو غزو كلف أميركا تريليونات الدولارات، وأضر بسمعتها، وأشعل كراهية واسعة ضدها في المنطقة تحولت إلى جماعة متطرفة وموجات عالية من العنف، ويقول المؤلفان في هذا السياق وأقتبس هنا: "لم يكن غزو العراق من مصلحة الولايات المتحدة، لكنه كان منسجماً بشكل كامل مع أولويات اللوبي الإسرائيلي”.
إذن، نحن أمام لحظة مهمة، اللوبي الإسرائيلي ما زال موجوداً، لكنه لم يعد القوة الوحيدة، وهناك بدائل تلوح في الأفق، وهناك مساحات يمكن للعرب أن يتحركوا فيها، ليبقى السؤال مطروحًا عن خطة عربية على المدى المتوسط والبعيد لاستغلال هذا الوضع المتوقع.
ما تحتاجه المنطقة هو رؤية استراتيجية جديدة، خليجياً من خلال توظيف القوة الاقتصادية والاستثمارية كأداة ضغط منظمة، لا مجرد مكاسب مالية، أردنياً ومصرياً بالاستمرار في لعب دور يعتمد على مدى خبرة الدولتين التاريخية في الصراع وقدرتهما على المحافظة على الدبلوماسية النشطة باستخدام أوراق مثل التوازن العسكري ومعاهدات السلام، بحيث تبقى الدولتان مركزيتان لا يمكن تجاوزهُما في أي ترتيبات تخص المنطقة.
لقد آن الأوان -باعتقادي- أن نتوقف عن النظر إلى أمريكا وكأنها كيان ثابت، فلا يوجد ما يمنع اليوم من تعدد مراكز القوى فيها، وتتنافس فيها اللوبيات، وإذا كان اللوبي الإسرائيلي قد نجح لسبعين عاماً في فرض نفسه، فما الذي يمنع العرب – بثقلهم الاقتصادي والبشري والدبلوماسي – أن ينجحوا هم أيضاً في تقديم أنفسهم كقوة ضغط منظمة؟
كتاب (ميرشايمر) و(والت) ما زال مرجعاً مهماً لفهم العلاقة الأميركية–الإسرائيلية رغم أن عمره اليوم 18 عشر عامًا. وقد استخدمت هذا الكتاب كدليل على أن ما نراه اليوم من تغيرات في سلوك واشنطن اتجاه إسرائيل لم يأتِ من فراغ، فالأرقام اليوم تميل لصالح السؤال عن جدوى الإنقياد الأمريكي لإسرائيل (من وجهة نظر رجل الشارع).
وللتأكيد على أن منحنى قوة هذا اللوبي في انخفاض، فقد تحدثت تقارير عن تضخم لافت في ميزانيته المالية والدعائية منذ السابع من أكتوبر، إذ جمعت المنظمات التابعة له خلال أسابيع ما يقارب تسعين مليون دولار، أي " عدة أضعاف" متوسط تبرعاتها في الأوقات العادية، رغم أن المنطق يقول أن هجوم حماس الذي خلّف أكثر من 1300 قتيل (حسب الرواية الإسرائيلية) لم يكن يحتاج هذه المضاعفة، لكن على ما يبدو أن عقل اللوبي أدرك من البداية أن هناك خسائر فادحة علي مستوى سمعة إسرائيل وروايتها.