لماذا تطول الحروب والصراعات في منطقتنا؟

نبض البلد -

حاتم النعيمات

حين نتأمل مشاهد الحروب التي اندلعت خارج منطقتنا العربية، نجد أن كثيرًا منها انتهى بسرعة وبأقل الخسائر الممكنة رغم حدّتها وعمقها التاريخي أحيانًا.

خذ مثلًا الصراع التاريخي بين الهند وباكستان، خاصة حول كشمير. رغم عمق الخلاف ودمويته، ورغم وجود سلاح نووي بأيدي الطرفين، فإن حتى الاشتباكات الأخيرة التي اشتعلت بعد هجوم بهلغام في نيسان الماضي، ورغم القصف الجوي المتبادل، لم تتحول إلى حرب شاملة والتصعيد توقف خلال أيام بعد تدخلات دولية، وإتفاق وإدراك من قبل الدولتين أن الحرب حالة استثنائية مكلفة وليست خيارًا دائمًا. الأمر ذاته تكرّر في الاشتباكات التي وقعت بين تايلاند وكمبوديا هذا الشهر بسبب خلاف حدودي قديم. ورغم القصف المدفعي المتبادل ومقتل جنود من الطرفين، تم التوصل إلى هدنة.

فلماذا إذًا تطول الحروب عندنا، وتتشظى، وتتكرس حتى تتحول إلى واقع لا يُحتمل ولا يُغيّر؟ الجواب ليس فقط في الجغرافيا أو في حجم التدخلات الدولية، بل في قطيعة عميقة مع فكرة الدولة نفسها في الذهنية العربية العامة. فالمنطقة العربية تاريخيًا قامت على أنماط اجتماعية مثل القبيلة والطائفة، والتي تملك بطبيعتها قدرة على إدارة شؤونها بمعزل عن مركزية الدولة، وأدى هذا الاعتماد الطويل على الذات في التنظيم الاجتماعي إلى جعل الكثير من الشعوب العربية لا تشعر تطوريًا بالحاجة إلى الدولة. فالدولة بقيت، في وعي هذه الأنظمة الإدارية الإجتماعية- إن صح المصطلح-، كيانًا يقف أحيانًا ضد طموحاتها. والحديث هنا ذو لمحة أنثروبولوجية تطورية ولا يعنى كثيرًا بالوضع المعاصر ولا يعمم على كافة الشعوب؛ فهناك نماذج عربية مضيئة كالأردن مثلًا. حيث لعبت العشائر دورًا مركزيًا في تأسيس الدولة الحديثة، عبر شراكة واعية بين الحُكم والمجتمع. وأصبحت العشيرة الأردنية جزءًا من منظومة الاستقرار، لا عقبة أمامها. وهو ما يفسر كثيرًا من قدرة الأردن على الصمود وسط إقليم متفجر، وعلى تجاوز محطات حرجة عصفت بغيره.

احتلال فلسطين وتجلياته زاد الطين بلة، إذ حوّل علاقة الشعوب العربية بدولها إلى علاقة اتهام دائم. فبينما كانت الأنظمة تحاول –ضمن المتاح– مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، المدعوم من أقوى قوة على وجه الأرض (الولايات المتحدة)، ظلّت الشعوب تنظر إلى هذه المحاولات بوصفها تواطؤًا أو تخاذلًا ولغاية اليوم، وهنا حدث الشرخ الكبير، الذي جعل الكثير من الناس يرى في الميليشيا ملاذًا أفضل من الدولة، وفي التنظيم الخارج عن الدولة أملًا لهزيمة إسرائيل، وفهمت الكثير من الدول الخارجية هذه الخاصية وصنعت الكثير من الجماعات والمليشيات في المنطقة واستخدمتها لمصالحها، مند تأسيس تنظيم الإخوان على بريطانيا مرورًا بدعم المجاهدين العرب في أفغانستان من قبل الولايات المتحدة وصولًا إلى مليشيات تركيا في شمال سوريا وليس بأذرع إيران في المنطقة.

إن قابلية تشكيل ميليشيات خارجة عن الدولة في منطقتنا ليست مجرد صدفة، بل نتيجة بنيوية، وثغرة استغلتها القوى الإقليمية لتعميق الانقسام، وتحويل ساحاتنا إلى حروب بالوكالة. هذه القوى وجدت في التربة العربية أرضًا خصبة للعب على فكرة اللادولة، والولاءات المتعددة، مقابل غياب مشروع وطني علمي جامع تحت مظلة دولة تحتكر السلاح والقرار.

ولا يكتمل المشهد دون الإشارة إلى القطيعة المؤلمة التي تعيشها شعوب المنطقة مع منظومة العلم والبحث العلمي. فقد تم تجريف العقول، وتمجيد الصوت العالي على العقل الهادئ، والعنتريات على التفكير المنهجي. ونتج عن ذلك مجتمعات تتعلق بالوهم والشعارات الفارغة، أكثر من تعلقها بالحلول الواقعية. والنتيجة هي صراعات طويلة، تنتهي حين تُقرر العواصم الأجنبية التي تملك العلم والتكنولوجيا، لا حين يُقرر الناس.

في المحصلة، إذا أردنا أن نخرج من هذه الحلقة الجهنمية، فنحن بحاجة إلى استعادة الإيمان بفكرة الدولة بالأخص بشكلها الوطني (القُطري) ككيان يسهل نمو المجتمعات وتطورها لا كعدو. نحن بحاجة إلى إعادة الثقة بين المجتمع والدولة، وإلى قطع الطريق أمام كل من يريد بناء شبكته الخاصة من العداوات والصداقات خارج سياق الدولة.

الموضوع أعمق من طرحه في مقال، وله جوانب أخرى عديدة، لكني أعتقد أن هذه العوامل المذكورة أعلاه تضع اليد على الجرح، فما حدث مؤخرًا في المنطقة من سقوط لمنظومة المليشيات وصعود لنجم الدولة الوطنية يحتاج للبدء بمراجعة شاملة على وقع نتائج ما قادتنا إليه العقلية العربية التي تكفر بالدولة والعلم بالمجمل.