حاتم النعيمات
يبرز الدور الأردني في جنوب سوريا بإعادة رسم ملامح التوازن العسكري والسياسي؛ حيث أُبرم اتفاق لوقف إطلاق النار بين دمشق وتل أبيب بضمانة أردنية وتركية، ورغم صعوبة تحديد مدى تماسك هذا الإتفاق نظرًا لتعقيد المشهد في السويداء (بؤرة الصراع)، إلا أن مثل هذه المحاولات مفيدة وتعزز قدرة الأردن على الحركة هناك. لطالما اعتُبرت هذه المحافظة ذات خصوصية جعلتها تحظى باستقرار نسبي خلال حروب وتقلبات الساحة السورية، لكنها تحوّلت اليوم إلى مركز صراع بين أطراف متضاربة؛ تل أبيب التي تتدخل جوًا، ودمشق التي تسعى للعودة بريًا، وبطبيعة الحال الأردن الذي يريد أن تكون بوابته الشمالية مضبوطة ومستقرة لمصالح أمنية وعسكرية وتجارية.
تتمتع محافظة السويداء بخصوصية سياسية فريدة نابعة من تركيبتها الديموغرافية ذات الغالبية الدرزية، ما منحها تاريخيًا دورًا مستقلًا وموقفًا حياديًا في المشهد السوري؛ إذ لم تنخرط بشكل كامل لا مع النظام ولا مع المعارضة خلال الحرب، بل ظهرت فيها قوى محلية لعبت دور الدولة وكانت بطريقة أو بأخرى ترفض سلطة دمشق وتطالب بصيغة حكم ذاتي ضمن سوريا موحدة (لامركزية). كما أن موقعها الجغرافي جنوب البلاد، المحاذي للأردن والجولان المحتل، جعلها نقطة تقاطع لمصالح متضاربة.
القوى المحلية في السويداء تتنوع بين دينية (مثل رجال الكرامة)، ومدنية علمانية (مثل حزب اللواء السوري)، وقوى مسلحة صغيرة (بعضها محسوب على النظام السابق)، وما يجمع هذه القوى هو رفضها لسيطرة أي نظام مركزي، وتمسكها بحماية المجتمع الدرزي ذاتيًا من التهديدات الخارجية.
لذلك تشكل السويداء عقدة أمنية حساسة بفعل غياب السلطة المركزية الفعلية منذ عقود، إذ يخشى الأردن من تحوّلها إلى منطقة فوضى أو ملاذ لمجموعات انفصالية، أو منطلق لتهريب المخدرات والسلاح، ما قد يحولها إلى أزمة جديدة تقلب المعادلات الأمنية والسياسية التي يحاول الأردن رسمها بحذر.
الأمور الميدانية معقدة وأي هدنة لن تكون مضمونة لأن جميع الأطراف تتصرف من منطلق عقائدي أو قبلي وتسود في المنطقة المتقاربة إجتماعيًا رغبات انتقامية عميقة. فالعقيدة الدرزية تواجه عقيدة سنية متشددة تمثلها دمشق المتحالفة مع القبائل الموجودة في محيط المحافظة والتي تقود هجومًا باتجاهها. وتمثل هذه القوى القبلية تخريجة أو بديل موثوق عن قوات الأمن الحكومية التي ترفض إسرائيل وجودها داخل السويداء بذريعة حماية الدروز.
صحيح أن الدور الأردني قوي في التعامل الآني مع المشهد، لكنه لم يستطع -لغاية اليوم- تحقيق اختراق على المستوى الاستراتيجي؛ إذ لا بد من المساهمة في تغيير في العقلية الإدارية والعسكرية للحكومية السورية الجديدة من خلال تقديم المعونة والاستشارة والتدريب للوزارات والجيش والشرطة هناك، ونحن قادرون على ذلك، وما نحتاجه هو تظهير حاجة الطرف التركي للأردن كضامن للاستقرار في الجنوب، وأقصد أن نوجد ما يمكن التفاوض عليه مع أنقرة.
لا مفر للأردن من إيجاد آلية حماية جديدة مختلفة عن القديمة في التعامل مع ملف الحنوب وذلك من خلال: أولًا، السعي لتخفيف حدة السمة المليشياوية لدى القوات المسلحة السورية إلى أبعد حد عبر المساهمة في بناءها، ثانيًا، تعزيز الاستقرار والمصالحات في الجنوب لسحب الذريعة الإسرائيلية، ثالثًا، تحشيد الضغط العربي على واشنطن لكف يد إسرائيل عن الساحة السورية، وأخيرًا، تقوية العلاقات مع الكتل الفاعلة في المشهد الميداني من بوابة أن الأردن داعم رئيسي للاستقرار. كلها أمور تعتبر مفاتيح مهمة باعتقادي.
المرَجّح أن التركيبة العقائدية والاجتماعية لأهل السويداء لن تقبل بالعقلية المتشددة التي تظهر على الأجهزة السورية الجديدة، وحتى لو تمت اتفاقات وتفاهمات فلن تكون متماسكة كما يعتقد البعض، لذلك فإن الأردن مطالب اليوم بالدخول بعمق داخل المشهد السوري للمساهمة في التغيير الجذري في عقلية الإدارة السورية الحديثة وشكلها(الفعل) بدلًا من معالجة أطراف المشكلة آنيًا برد الفعل.