بين الدولة والهوية: قراءة في التجربة العربية

نبض البلد -

أحمد الضرابعة

في كتابه "فلاحو سورية والشرق الأدنى"، يقول المستشرق جاك ولرس: "إذا سألت فلاحًا من الجزيرة أو المناطق الشرقية من لبنان، أو من عجلون، من يكون؟ يجيبك بأنه من هذه القبيلة أو تلك، أو من هذه القضية أو تلك، ويجيبك بأنه مسلم أو أرثوذكسي أو درزي . . . لكن لا يجيبك أبدًا وبعفوية بأنه عراقي أو سوري أو أردني"

لم تظهر أزمة الهويات في العالم العربي بشكل مفاجئ، بل كان لها جذورها التاريخية التي استمرت بالنمو رغم كل التحولات السياسية التي طرأت على المنطقة، ولكن مع سقوط الحكم العثماني وبدء عصر الدولة الوطنية الحديثة الذي كان العرب آخر الأمم اندماجًا فيه، تحولت الكيانات الاجتماعية إلى فواعل موضوعية مستغلة المراحل الانتقالية الفاصلة، حيث بدأت الهويات الفرعية - القبلية - الطائفية - العرقية - المناطقية تلقي بظلالها على الخطاب السياسي أو الاجتماعي، لا بوصفها مكونات طبيعية تعتبر أجزاءً من الكل الوطني، وإنما كأدوات تفاوض وممانعة أمام مشروع الدولة الذي كان هشًا في بدايته، وما إن قوي واشتد عوده حتى انهار أو تراجع لاحقًا في أكثر من بلد عربي لكل منه تجربته الخاصة في هذا السياق، الأمر الذي أعاد تكرار ما حدث في بدايات القرن الماضي عندما بدأت النخب السياسية والثقافية العربية العمل على تأسيس كيانات سياسية وطنية للالتحاق بالشعوب والأمم التي فرضت حضورها في النظام الدولي. لكن المفارقة الكبرى أن هذه النخب ذاتها لم تجمع على تعريف محدد لمفهوم الدولة الوطنية وما ينضوي تحته، فظلت الهوية أداة تعبئة وتحشيد لكل تيار يحاول فرض تعريفه الخاص لهذا المفهوم. وفي ظل هذا التنازع على مفهوم الدولة الوطنية، فإن هذه الأخيرة ولدت وهي تحمل في طياتها بذور النزاع التي كانت تنمو ثم تذبل ثم تنمو بقوة بعناية خاصة من القوى الإقليمية والدولية التي تبيع الأقليات وهم الحماية داخل مجتمعاتها المحلية مقابل الولاء السياسي أو الأيديولوجي لها، وهو ما أنتج حالة من الشذود الوطني كنتاج تراكمي لفشل السلطات الرسمية في بناء أرضية مشتركة يمكن لجميع المكونات الوقوف عليها دون الإحساس بالخطر، وهو ما أدى لقبول بعض هذه المكونات بالتبعية لكيانات سياسية خلف الحدود للشعور بالأمن.

بعد مرور أول قرن على انتظام العرب في كيانات سياسية حديثة (دول)، ما زال الانتماء إلى القبيلة أو المذهب يتفوّق على الانتماء للدولة. هذه الإشكالية يحيل المستشرق ولرس أسبابها إلى أن صيرورة تشكّل الدولة المعاصرة في أصلها غربية، وأن العرب في اقتباس هذه الصيرورة فشلوا في خلق اندماج بين الأرض والأمة والهيئة السياسية كما حدث في الغرب.