نبض البلد -
حاتم النعيمات
تشير تقارير عديدة إلى تحوُّل دولة مالي الأفريقية إلى بؤرة نشاط لتنظيم القاعدة، الدولة الصحراوية التي تحاصَر عاصمتها اليوم من قبل تنظيم تابع للقاعدة يطلق على نفسه "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" يعتبره مراقبون الأخطر في غرب إفريقيا.
هذه الجماعة، التي أُعلن عن تأسيسها عام 2017، لم تنشأ من فراغ، بل جاءت تتويجًا لمسار طويل بدأ منذ سقوط نظام القذافي في ليبيا على إثر ما سمي بالربيع العربي، حين انتشرت الأسلحة والمقاتلون في الصحراء الكبرى وسادت الفوضى، إذ وجد تنظيم القاعدة في ذلك الفضاء الواسع ملاذًا مثاليًا لتوسيع نفوذه. ومع مرور السنوات، اندمجت فصائل صغيرة مثل "أنصار الدين" و"المرابطون" و"كتائب ماسينا" بقيادة (إياد أغ غالي)، أحد أبرز وجوه الجماعة في شمال مالي.
الجماعة تسعى لفرض نموذجها في الحكم على مناطق بأكملها في القرى الواقعة شمال ووسط مالي، ووصلت الأمور إلى تمكنها من إنشاء محاكم شرعية بدائية، وفرض الضرائب، والتحكم بحركة القوافل التجارية؛ باختصار، التنظيم يسعى لتأسيس دولة هناك وليس مجرد تنفيذ عمليات هنا ومساومات هناك.
في السنوات الأخيرة، تصاعدت الهجمات بشكلٍ غير مسبوق. فخلال عامي 2024 و2025، ضربت الجماعة مواقع الجيش المالي في الوسط والشمال، واستهدفت دوريات على الحدود مع بوركينا فاسو والنيجر، ونفّذت عمليات خاطفة ضد قوافل الإمداد، وهذا التصعيد لم يكن عشوائيًا، بل جاء بعد تراجع وجود القوات الفرنسية وانسحاب بعثة الأمم المتحدة، ما خلق فراغًا أمنيًا استغلته الجماعة لتعزيز انتشارها.
يبدو أن جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" تسعى إلى أهدافٍ مركبة، أيديولوجية وسياسية في آنٍ معًا. فمن الناحية الفكرية العقدية، تسعى لفرض تطبيق صارم للشريعة، ومن الناحية السياسية تعمل على إسقاط نفوذ الدولة المركزية واستبداله بحكمٍ محلي تسيّره الجماعة عبر تحالفات قبلية. ومع الوقت، نجحت في اختراق بعض البُنى الاجتماعية، خصوصًا في المناطق التي عانت من التهميش لعقود، حيث لم يجد الناس من يحميهم أو يوفّر لهم العدالة سوى مقاتلي التنظيم.
حكومة مالي، ورغم محاولاتها استعادة السيطرة عبر تحالفها مع قوات فاغنر الروسية، لم تستطع بسط نفوذها خارج المدن الكبرى. وفي ظل هذا الوضع الكارثي، نشأ تنافس خطير بين القاعدة وتنظيم داعش في منطقة الساحل، حيث يسعى كلٌّ منهما إلى إثبات أنه الأقدر على السيطرة وتطبيق مشروعه.
التقديرات الأمنية تشير إلى أن الجماعة ستواصل توسيع نفوذها في جميع الاتجاهات في المدى القريب، ما لم يتم بناء جبهة محلية موحّدة تضم الحكومة والقبائل والقوى الإقليمية.
النمط واضح وربما نكون قد تعودنا عليه بحكم فهمنا لعلاقة الدول العظمى -بالأخص الغربية- مع هذه التنظيمات؛ فعادة ما كانت هذه الدول تُسقط الأنظمة في منطقتنا وتترك هذه الجماعات لتنشط وتسيطر وتخلق الفوضى (الأمثلة كثيرة: ليبيا، وسوريا، والعراق، واليمن)، إما لتصفية حساباتها البينية كاستخدام تنظيم نُصرة الإسلام والمسلمين كأداة في مواجهة "ڤاغنر" الروسية التي تحاول ملء الفراغ بعد انحسار النفوذ الفرنسي.
لا أرغب في استخدام الأدوات الكلاسيكية في قراءة الصراع هناك، مع أن الدول العظمى ذاتها لم تتوقف عن إعادة إنتاج هذه الأدوات فعليًا، سواء بحضور جيوشها الفعلي أو عبر الوكلاء، لكن يبدو أن العقلية الاستعمارية لم تنته بعد، خصوصًا أن أفريقيا تعتبر منجمًا للموارد الطبيعية والمعادن.
لا بد هنا من التذكير بأن هذه الجماعات لديها "موصلية" عالية مع منطقتنا بدءًا من شمال أفريقيا وصولًا إلى المشرق العربي، فالبعد الجغرافي قد لا يكفي لنقول إننا غير معنيين بالتفاعلات هناك، فنحن نعرف أن وصول جماعات إسلامية إلى السُّلطة يفتح شهية الكثيرين تمامًا كما حصل بعد ثورة الخميني عام 1979.
إذا كان هناك إلمام استراتيجي عربي، فمن المتوقع أو المرجو أن تتحرُّك الدولتان العربيتان المحاذيتان لمالي وهما الجزائر وموريتانيا، واللتان تمثلان البوابة التي يمكن إغلاقها في وجه هذا التمدد الذي لا يمكن توقع سرعته، خصوصًا أن هناك دول مثل السودان وليبيا ما زالتا في خضم اضطرابات قد تكون بيئة خصبة إضافية لنشاط هذه الجماعات.
المنظومة العربية الوقائية يجب أن تنشط أكثر لاستباق المشاكل وليس التعامل معها، فلا يوجد أوضح من هذا النمط في تدمير الدول وتفكيكها من قبل قوى الاستعمار ومن ثم ترك مثل هذه الجماعات تسرح وتمرح بالوكالة، والتجارب كثيرة تحت هذا العنوان. لذلك يفترض أن تلتفت الدول العربية لهذه البؤرة الجديدة بعمق، وبحساسية أكثر حتى لا نقع في نفس الخلل الذي أنتج دول منهارة وفاشلة نراها اليوم في حالة استباحة.