نبض البلد - مركز حزب عزم للدراسات الاستراتيجية
في اللحظة التي تُقفل فيها أبواب المؤسسات أمام صوت المعرفة، ويُستبدل فيها ضوء الخبرة بضجيج المحسوبية، تتحول الدولة من فاعلٍ قادر إلى مسرحٍ للفراغ الإداري.
لقد عرف الأردن عبر تاريخه الإداري تميزًا لافتًا في بناء مؤسسات فاعلة رغم ضيق الإمكانات، واستطاع أن يقدم نموذجًا عربيًا في النزاهة والكفاءة، حيث كان القرار الإداري يستند إلى الخبرة لا الولاء، وإلى الجدارة لا العلاقات. غير أن السنوات الأخيرة حملت تحولات مقلقة في هذا الإرث، إذ تسلق غير المؤهلين إلى مواقع القرار بفعل الولاءات الضيقة وشبكات المصالح، لا نتيجة الكفاءة أو التجربة (الموقع قبل الكفاءة، الولاء قبل الأداء)، ومع هذا التحول بدأت عملية ممنهجة لتفريغ المؤسسات من أصحاب الكفاءة، عبر التهميش أو الإقصاء أو الإبعاد الصامت، حتى غدت كثير من المؤسسات تُدار بالمجاملة والمهادنة والتسكين، لا بالمعرفة.
لم يكن تسلق غير المؤهلين إلى مواقع المسؤولية حدثًا عابرًا، بل نتيجة تراكماتٍ سياسية وإدارية. فغياب التقييم الموضوعي، وضعف المحاسبة، وتغليب الولاءات على معايير الكفاءة، كلها عوامل فتحت الباب أمام منظومة من الإداريين المطمئنين، والذين يحرصون على الاستقرار الشكلي أكثر من النتائج.
ومع الوقت، أصبح كثير من أصحاب المهارة والإبداع إما محاصرين إداريًا، أو مُبعدِين قسريًا، أو مضطرين للصمت، في حين برزت فئة تجيد الكلام أكثر مما تجيد الفعل، وتحوّل التدرج المهني إلى استثناء، وأصبح الوصول إلى مواقع القرار في حالات كثيرة مرهونًا بعلاقات شخصية أو اعتبارات غير مهنية، مما أفقد الجهاز الإداري حيويته، وأضعف قراره الاستراتيجي.
بذلك، تحولت بعض المؤسسات إلى بيئات طاردة للعقول، وباتت سياسة المهادنة والمجاملة، أي تأجيل المواجهة أو التنازل المؤقت لتفادي الاحتكاك السياسي، عبر التسويات قصيرة الأمد، وعبر التأجيلات الإدارية لتعطيل قرارات ضرورية، وتزيد من عبء التراكم الإجرائي، والتعويل على الزمن بهدف أن ينسى الناس، ما يتيح لممارسات التقصير أن تتجذر.
ان سياسة المهادنة والتسكين والمجاملة، جاءت كنتيجة لما يمكن تسميته التخطيط الاستراتيجي لتكسير مجاديف أصحاب الكفاءة، واستهداف أصحاب الفكر والجراءة والقدرة على اتخاذ القرار، عبر تشويه السمعة وتلفيق الروايات، واستخدام أدوات إعلامية أو رقمية مأجورة لتدمير الصورة العامة لهم، في عملية اغتيالٍ معنوي تُمارس ببطء وذكاء. لقد رُوّج لهذه الاستراتيجية تحت شعار الحفاظ على الاستقرار، وهي لم تكن في جوهرها سوى وصفة للانهيار البطيء. فالمهادنة في مواجهة الخلل المؤسسي ليست حكمة، بل إضعاف تدريجي لقدرة الدولة على الإصلاح. إذ جرى تأجيل المواجهة مع مراكز النفوذ والمصالح خوفًا من الاصطدام، فاستُبدل الإصلاح بالتسويات، والمساءلة بالمجاملة، والجدارة بالترضية. وبهذا النهج تراجعت كفاءة مؤسسات كانت يومًا مصدر فخر واعتزاز، لا بل تحول بعضها سبب الإدارات إلى كيانات تستهلك الوقت والمال دون أثر ملموس.
كلها إجراءات تم ممارستها تحت شعار الحفاظ على وضع السكون، الى ان تحولت إلى أداة لتأجيل الإصلاح، إذ يتم التعايش مع الخلل الإداري. كما أصبحت القرارات الإدارية تُصاغ لإرضاء الأشخاص لا لخدمة الدولة، وصار المعيار هو الولاء لا الإنجاز، والنتيجة كانت انحدارًا في مستوى الأداء العام، وظهور أزمات متراكمة في التعليم، والاقتصاد، والإدارة العامة.
لقد أضعفت هذه السياسات، الثقة بالمؤسسات العامة، وانكمشت دائرة الإبداع والمبادرة في الجهاز الإداري، وبرزت أعراض التراجع في الأداء الحكومي والتعليم العالي على السواء. فشهدت الدولة بطئًا في اتخاذ القرار، واتساعًا في الفساد المقونن، وتراجعًا في جودة الخدمات العامة. كما تدهورت نوعية مخرجات التعليم، وانخفض مستوى البحث العلمي، وغادر كثير من الأساتذة المميزين مؤسساتهم او تحولوا الى التعايش مع حالة اللامبالاة، وترك بعضهم الجمل بما حمل. أما على الصعيد الدولي، فقد انعكس هذا الضعف المؤسسي في تراجع ترتيب الأردن في مؤشرات التنافسية وسهولة الأعمال وجودة الإدارة، وهو ما أثر مباشرة على ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي بقدرة الدولة على التطوير الذاتي والنمو المستدام.
في الواقع، قد تبدو سياسة المهادنة حلًا مرحليًا، الا ان المهادنة في المواجهة تعتبر خللاً مؤسسي خطير (ليست حكمة كما ادعى البعض)، تُسهم في تدمير القدرة المؤسساتية على المدى المتوسط والطويل. فكل تأجيلٍ لمواجهة الخلل زاد من تعقيد المشهد الإداري، وجعل من الخطأ قاعدةً ومن الكفاءة استثناءً.
كل ذلك، جعل النتائج مركبة، منها تحطيم رأس المال الرمزي للكفاءات، سمعتهم ومصداقيتهم، مما يُسهّل فصلهم أو إضعاف تأثيرهم داخل المؤسسة، وأفقد الدولة قدرتها على المنافسة، وأضعف ثقة المواطن والمؤسسات الدولية بقدرة الجهاز الإداري على التطوير الذاتي، والاقتصاد يفقد عنصر الابتكار.
الملك عبد الله الثاني كان واضحًا، حين أكد أن الإصلاح الإداري هو مفتاح الإصلاح السياسي والاقتصادي، وأن الكفاءة لا تُقاس بالولاء بل بالإنجاز. وان الإصلاح الإداري لا يمكن ان يتم دون اصلاح التعليم. كما ان اخر دعوة للملك لإصلاح منظومة التعليم، كانت في خطاب العرش تاريخ 26/10/2025. كما سبق للملك ان دعا إلى استقطاب الكفاءات الأردنية في الداخل والخارج، وبناء منظومة وطنية تقوم على الجدارة والقدرة على اتخاذ القرار، والخبرة لا على العلاقات والمصالح والتزكية من هنا اوهناك، محذرًا من مخاطر تحويل مؤسسات الدولة إلى دوائر مغلقة على نفسها. هذه التوجيهات تمثل دعوة صريحة لإعادة تصويب المسار. غير أن الفجوة بين الرؤية الملكية والسياسات التنفيذية على مدار العقود الأخيرة (لا نعلم لماذا؟)، مما يتطلب إرادة سياسية وإدارية جادة لترجمة الرؤية إلى واقع ملموس.
في هذا الإطار، يرى حزب عزم أن الأزمة ليست أزمة أفراد بل أزمة منهج في الإدارة والتخطيط، وأن مسألة تفريغ الكفاءات ليست عرضًا إداريًا عابرًا بل أزمة وطنية تمس الأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. فالإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يُدار بالأدوات ذاتها التي صنعت الأزمة، ولا يمكن للوطن أن ينهض ما دامت الكفاءات تُقصى والولاءات تُكافأ. ومن هنا يدعو الحزب إلى إطلاق استراتيجية وطنية شمولية لإعادة بناء منظومة الكفاءات الأردنية، تقوم على إعادة هيكلة المؤسسات وفق معايير الجدارة والمهنية، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وإعادة الاعتبار للكفاءات الأردنية عبر نظام تقييم يقوم على الإنجاز لا على العلاقات والتز كيات، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية للعقول والخبرات الأردنية في الداخل والخارج لتسهيل دمجهم في مشاريع التنمية، وحماية الكفاءات من الاستهداف الإداري والإعلامي عبر تشريعات واضحة للمساءلة والشفافية، إلى جانب إصلاح الإعلام الوطني ليكون داعمًا للإنجاز لا أداة لتصفية الحسابات بين البعض أو ترويج الشائعات لاغتيال الشخصيات صاحبة الكفاءة لدفعها للمغادرة او الانكفاء.
ويرى الحزب أن الخطة الاستراتيجية لتكسير مجاديف الكفاءات لم تكن فعلًا عشوائيًا بل عملية ممنهجة وتراكمية، تحتاج إلى معالجه بعزم وشفافية. وللتصدي لهذا الانحدار، لا بد من تحرير الإدارة من القيود البيروقراطية والمصالح الضيقة، والانتقال إلى مرحلة جديدة من الحوكمة الوطنية التي توازن بين الولاء والكفاءة، وبين الثقة والمساءلة. فالمشكلة في الأردن ليست في نقص الموارد، بل في تغييب من يملك القدرة على إدارتها (والامثلة على ذلك كثيرة). إن الطريق نحو الإصلاح الحقيقي يبدأ من تبنّي رؤية استراتيجية متكاملة تُعيد الاعتبار للكفاءات وتُعلي من قيمة الجدارة الوطنية، من خلال تبني معايير شفافة وقابلة للقياس، وإنشاء نظام تقييم أداء مستقل يقيّم النتائج لا الولاءات، ورضى البعض في مواقع القرار، وتعزيز الشفافية الإعلامية عبر مؤسسات مستقلة تراقب السلوك الإداري وتحمي السمعة المهنية، وتشجيع المشاركة المجتمعية في مراقبة أداء المؤسسات وإشراك الخبراء والمجتمع المدني في الرقابة والتقييم.
هذه هي الرؤية التي يؤمن بها حزب عزم، والذي يدعو إلى توحيد الجهود بين الدولة والمجتمع لإطلاق عقد إداري جديد، يكون جوهره بناء الدولة الحديثة التي لا تُقصي أبناءها، بل تُعيد تمكينهم ليقودوا نهضتها المقبلة بثقةٍ وعقلٍ وإرادة.
فالمستقبل لا يُبنى بالمجاملات ولا بالمهادنة والتسكين، بل بالتخطيط المتكامل، الذي يربط بين التعليم والإدارة والاقتصاد في إطار وطني شمولي. إن استثمار رأس المال البشري الأردني يوازي في أهميته الأمن والسيادة. هذه هي الرؤية التي يؤمن بها حزب عزم، لإطلاق عقد إداري جديد لبناء الدولة الحديثة.
وفي النهاية، إذا كانت الدولة شبكة من مؤسسات قادرة على تحويل الموارد إلى خدمات وحلول، فإن الكفاءات هي خيوط هذه الشبكة، وتفريغها أو تكسيرها يعني تشقق النسيج نفسه. فالأوطان لا تنهض بالشعارات، بل بمن يملك القدرة على الفعل والإبداع، ومن يجرؤ على أن يقول "لا" حين يكون الصمت خيانة للواجب.
الوطن لا يحتاج إلى مواهب تفرّ منه، بل إلى مؤسسات تحتضنها وتمنع أن تتحول المواطنة إلى شعارٍ يُكتب على الجدران بينما تُفرغ المؤسسات ممن يصنعون الفارق الحقيقي. وبخلاف ذلك ستبقى المؤسسات تدور في حلقةٍ من الجمود. فالأمم لا تنهض إلا بعقولها، ولا تتقدم إلا بوفائها لمن خدموها بإخلاص، لا لمن خدموا أنفسهم بالمناصب والولاءات باسمها.