نبض البلد - المحامية هبة أبو وردة
يسلط بعض الإعلام أضواءه على الحوادث الفردية، فيحولها إلى عناوين غاضبة ويشعل حولها جدلا شعبيا سريع الاشتعال، "القانون الأردني يبيح السرقة بين الأزواج"، عنوان تصدر المنصات خلال الأيام الأخيرة، وتلقفه الرأي العام بصدى عاطفي متفجر، متناسيا أن العدالة ميزان دقيق يوازن بين العقل والوجدان، وبين حماية الأسرة وصيانة العدالة.
المشرع الأردني حين صاغ المادة 425، ضمن باب الجرائم الواقعة على الأموال من قانون العقوبات، كان يرسم حدود الرحمة داخل الأسرة لا كحالة فردية، إنما كيان وجداني الردع القاسي به يحطم روابطها وما يتفرع عنها، بشكل لا يترك لإعادة توازنها مجالا، مما جعله يقدم العدالة الإصلاحية على العدالة العقابية.
فقد تخلت الدولة عن دورها كخصم يعاقب على ما يتم إقترافه من جرائم تمس بالمجتمع، ونصبت نفسها حكما يحمي النسيج الأول في المجتمع ذاته، دون أن يمحو عن الفعل صفة الجريمة، إنما بالامتناع عن إيقاع العقوبة بشروط دقيقة، تضمن ألا يساء استخدام هذا التسامح.
حيث أن المشرع الأردني لم يجعل هذا التسامح حصانة؛ فقد جاءت الفقرة الثانية من المادة ذاتها بقيد واضح، يزيل الإعفاء ويعيد الردع وإن كان مخففا، في حالة التكرار خلال ثلاث سنوات، وهو "زمن الإختبار الطبيعي" في الفقه الجنائي، الذي يمكن أن يثبت خلاله الجاني صدق توبته أو إستمرار ميوله الإجرامي، وبالتالي مدة كافية لقياس استقرار السلوك الشخصي والاجتماعي.
فإذا كرر أحد الزوجين الفعل المجرم ذاته، خلال هذه الفترة الزمنية، يكون الإعفاء الرحيم لم يؤدي غايته الإصلاحية، إنما أسيء استخدامه للإفلات من العقاب، استنادا إلى منطق تشريعي قائم على التفرقة بين الزلة والسلوك الإجرامي المتأصل، وهو ما يتفق أيضا مع مبدأ سقوط مفاعيل السوابق البسيطة في السياسة العقابية.
تتقاطع هذه الحكمة التشريعية، مع القاعدة الإسلامية الراسخة التي تدعو إلى درء الحدود بالشبهات وتغليب الإصلاح على العقاب؛ فالمقصد هنا هو حماية معنى الأمان داخل الأسرة؛ إذ إن السرقة بين الأزواج لا يمكن أن تقاس بمقياس سرقة الغير، لأن اختلاط العاطفة بالمال يضعف الركن المعنوي للجريمة ويخل بإتمام النية الجرمية.
الإرادة الإنسانية تبقى حجر الأساس في هذا النوع من القضايا؛ إذ لا يمكن فرض العدالة الجافة على روابط قائمة على المشاعر، لذلك لا مجال لمهاجمة النص والخلط بين مفهومي الردع والشفاء، حيث أن العدالة لا تقوم على "القصة الفردية"، إنما على إعادة التوازن الإجتماعي، وإغلاق المجال على هذا الكيان الذي يستحق أن يعامل بخصوصية تحفظ هيبته وستره واحترامه.
من جهة أخرى، المشرع الأردني لم يمس حق المجني عليه المتضرر من حقه المدني في استرداد ما سلب منه أو التعويض عنه؛ فهو لم يسقط الحق إنما غير طريق المطالبة به من العقوبة إلى جبر الضرر، بذلك يكون الإعفاء من العقوبة، هو تحقيقا لاعتبارات المصلحة الإجتماعية، وحماية الأسرة من الانهيار، أما الحق المالي فهو لا يسقط إلا بالوفاء أو التنازل الصريح؛ لأن مناطه مختلف.
قرأت النصوص القانونية بعيدا عن العناوين الصاخبة، تظهر بوضوح أن جوهر الفلسفة التشريعية، عقل راشد يدرك متى يصفح، متى يعاقب ومتى يبدل أدواته، كي يعيد إلى العلاقات المنهكة شيئا من الكرامة لا أن يضيف إليها قيدا جديدا؛ فالرحمة هنا ليست ضعفا أمام العاطفة، إنما وعي قانوني يدرك أن الإصلاح والغفران المنضبط، هما أهم أدوات العدالة.