المفتاح الذي يمتلكه السجّان: مأساة حضانة ومشاهدة الأطفال في زوايا قانون الأحوال الشخصيّة

نبض البلد -
د.دانا خليل الشلول
في أروقة محاكم الأحوال الشخصية، لا تُكتب الأحكام على الورق فقط وتنتهي الحكاية، بل تُنقش عميقاً في قلوب الأمهات، أو الطرف غير الحاضن، والأطفال؛ إنها قصص الكثير من الأشخاص الذين قد يكونوا آباءً أوأمهات، يجدون أنفسهم أمام خيارات مستحيلة، حيث يصبح الحرمان من النفقة، وسقوط حق الحضانة، وتقييد المشاهدة والرؤية هو الثمن الوحيد للتحرر؛ فهذه السطور لا تروي مجرد وقائع لقصّةٍ عاديّة، بل تنبش في الواقع المؤلم لآلية قانونية تكون عاجزة أحياناً عن توفير القوة الجبرية أو التنفيذ الفعلي للأحكام ضد ضعاف النفوس، وتترك الطرف غير الحاضن وحيداً أمام خيارات تفرضها قسوة الظروف العوز والخوف.
وهنا نسمع قصة أخرى لـ مريم (36) سنة، والتي تحررت من زوج أثقلتها قضاياه الأخلاقية وعمله في الممنوعات؛ ولكن التحرر لم يوقف سيل مآسيها، فقد امتنع طليقها عن دفع النفقة لابنته، لكن لم ترفع مريم دعوة قضائيّة ضده لحبسه، خاصة ً وأن الزوج مسجون ومحكوم لمدة طويلة نظراً لقضاياه، فبالتالي لن يغير رفع القضية من واقعه شيئاً.
ونظراً لـ كون مريم تعمل بـ"المياومة" وبإمكانيات مادية ضعيفة جداً، بالإضافة إلى ضعف حال أهلها مادياً، اضطرت إلى التنازل عن حضانة ابنتها "سلمى" لجدتها (حماتها السابقة)، على أمل توفير حياة أفضل لها هناك، إلا أن الجدة، وهي سيدة كبيرة ووضعها المادي ليس بالممتاز لكنه مستقر أكثر من وضع مريم وقادرة على توفير ظروف أفضل لـ "سلمى"، قامت بمنع مريم من حقها في رؤية ابنتها، ومع ذلك تقول مريم "قلبي ما بطاوعني أشتكي على جدة بنتي، لأني بعرف إنها مش إنسانة سيئة، بس هي مضطرة تطاوع ابنها عالشر والأذى؛ لأنها بتخاف من تهديده إلها بالقتل والإيذاء إذا سمحتلي أشوف بنتي، وهو شخص الكل بتقي شره، وكلنا بنعرف إنه حتى وهو بالسجن بقدر يآذينا كلنا."
هنا، وفي اللحظة الأكثر إيلاماً، تمنت مريم لو أن القانون يتيح لها رؤية ابنتها بالقوة الجبرية، فـالجدة نفسها همست لها ذات مرة: "ارفعي عليّ قضية، بصير عليّ تعميم، يمكن أنمسك ووقتها بقدر أعيطك البنت غصب عني، وبيكون عذري موجود قدام أبوها".
وتابعت مريم حديثها تكمن المأساة في أن الجدة عليها تعميم ومطلوبة قانونياً، لكن جميعاً مدركين أنه لا يوجد قانون فعلياً يسمح بتسيير دورية لانتزاع الطفلة لحين إعطائي حقي بالمشاهدة، ولن يحاسبها أحد؛ فالدوريات بحسب ما شرحت لي المحامية لا تطلب هويات النساء إلا نادراً، للحفاظ على كرامة المرأة في مجتمعنا، والأدهى من ذلك، أنه لا توجد آلية "قوة جبرية من منزل الحاضن" لتنفيذ قرار الرؤية وإحضار الطفل للأم، حتى لو صدر حكم، وستبقى الأمور معلّة لحين حدوث صدفة تسمح بإلقاء القبض على الحاضن بالمصادفة. وهكذا، سقطت حقوق مريم الثلاثة : الحضانة والنفقة والمشاهدة، أمام واقع الخوف والتهديد المستمر، وعدم وجود الحماية والسند والدعم.
من منظور نفسي، تؤكد الأخصائية النفسية عايدة العلي أنَّ حالة مريم وسلمى والجدة تكشف عن ثلاثية مؤلمة من الضغوط؛ فالأم تعيش حالة من العجز المُكتسب، مجبرة على التنازل عن دورها بسبب العوز والخوف، ما يؤدي إلى حرمانها العاطفي وحرمان الطفلة منها، أما الجدة، فهي ليست طرفاً عدائياً بل ضحية إكراه عاطفي ونفسي، حيث يجبرها خوفها على سلامتها على الانصياع للتهديد، وفي المنتصف، نجد الطفلة (المحضون)، التي تتعرض لكسرٍ في التعلق الآمن مع أمها، وتنمو في بيئة يسودها القلق والخوف غير المعلن، الأمر الذي يهدد استقرارها النفسي على المدى الطويل ويزرع لديها شعوراً بأن التهديد أقوى من القانون والحق، وهذا الواقع يؤكد ضرورة التدخل ليس فقط القانوني بل والاجتماعي والنفسي لحماية الأطراف الضعيفة.
أما من الناحية القانونيّة؛ يبيّن المحامي والخبير بحقوق الإنسان الدكتور أيسر القيسي؛ أنَّ الحرمان من المشاهدة والاستزارة من جهة الحاضن مهما كانت صفته في حياة المحضون محرّم شرعاً، ويدخل في زاوية التحريض على عقوق الوالدين وقطع الرحم، وتابع القيسي حديثه، مؤكّداً أنَّه في حالة عدم استجابة الحاضن لقرارات المحكمة بمشاهدة الطرف غير الحاضن للمحضون فإنَّ قانون التنفيذ الشرعي لعام (2013) وتعديلاته عالج هذه المسألة؛ وذلك في المادة (15) منه في فقرتها الأولى والتي نصت على أنه: على الرغم مما ورد في المادتين (13) و(14) من هذا القانون، يجوز حبس المحكوم عليه، إلى حين إذعانه، عند الامتناع عن تسليم الصغير أو عدم الالتزام بتنفيذ حكم الرؤية أو الاستزارة أو الاصطحاب وذلك بناء على طلب المحكوم له.
في حين تُشير المحامية الأستاذة سارة الشيخ لموضوع المشاهدة للمحضون بأنَّه لا يوجد قانون لاستخدام القوة الجبرية بحق الحاضن لإلزامه بتنفيذ حكم مشاهدة الطرف غير الحاضن للمحضون، حيث يتم اللجوء لإنذار الحاضن وفي حالة التكرار؛ قد يقوم القاضي وفقاً لأحكام المادة (183) من قانون الأحوال الشخصيّة الأردني بنقل الحضانة لمدة مؤقته لا تزيد عن سنة إلى من يليه من أصحاب حق الحضانة، مما يضمن مصلحة الطفل دون اللجوء للإجراءات القسرية الصادمة للحاضن، كما يمكن أن يجري الاتفاق على تغيير مكان الاستلام ليصبح عن طريق دار رعاية أو مركز أمني.
إن هذه الحالات والقصص من المجتمع ليست مجرد أرقام ووقائع فردية، بل هي دعوة صادقة لإعادة النظر في الثمن الباهظ الذي يدفعه الأبرياء عندما يتعارض نص القانون مع واقع التطبيق مع بعض ضعاف النفوس الذين يستغلون النصوص القانونيّة التي تحفظ كرامتهم وتحميهم وتدفع عنهم الأذى النفسي، ليستخدموها كأداة لإيذاء الآخرين والتمكّن منهم والتغاضي عن حقوقهم، خاصة في ظل وجود التهديد والخوف؛ فلا يكفي سنّ تشريعات تحمي حقوق النفقة والحضانة والمشاهدة، بل يجب أن تتوازى هذه التشريعات مع آليات تنفيذية رادعة وفعّالة، تضمن "القوة الجبرية" لتطبيق الأحكام دون مساومة أو خوف أو تأجيل، وفي الوقت ذاته تحافظ على سلامة الأطراف الضعيفة وكرامتها؛ حيث إن المطلوب اليوم هو تحول شامل يشمل الجانب القانوني والاجتماعي والنفسي؛ من خلال تفعيل دور الشرطة المجتمعية والمراكز الآمنة لضمان تنفيذ الرؤية، وتغليظ العقوبة على المحرّضين الذين يستغلون سلطتهم أو قوتهم أو خوف الناس منهم للتهديد والابتزاز، وتقديم دعم نفسي واجتماعي مستدام للأطراف غير الحاضنة والمتضررة؛ فمصلحة الطفل، التي هي جوهر القانون، لن تتحقق إلا عندما يصبح القانون نفسه سنداً حقيقياً يحمي من العجز والخوف، ويؤكد أن العدالة أقوى من التهديد، وأن الحقوق الأساسية لا تسقط أبداً أمام قسوة الظروف أو ضعف النفوس، فالقانون وُجد حتماً لحماية صاحب الحق وحفظ الحق للضعيف وحمايته، ولا يقبل القانون أن يشعر المظلوم وكأنّه في مأزقٍ حقيقيٍّ لا خلاص منه وكابوسٍ لا يُفارقه ولا ينتهي.
**جميع الأسماء الواردة في القصة مستعارة حفاظاً على خصوصيّة أصحابها
**جميع الحقوق محفوظة للكاتبة.