نبض البلد -
حاتم النعيمات
في ثلاثينيات القرن الماضي، أرسلت بريطانيا وفودًا كثيرة إلى فلسطين، إذ وجدت بريطانيا نفسها في قلب عاصفة جعلتها عاجزة عن التوفيق بين وعد بلفور من جهة، وحقوق العرب من جهة أخرى، وإدراك لحقيقة مفادها أن الهجرة اليهودية كانت عملًا عثمانيًا خالصًا؛ فجاءت لجانها تباعًا مثل لجنة شاو بعد أحداث 1929 لتقرّ بأن الهجرة اليهودية وشراء الأراضي هما جوهر النزاع، ثم لجنة هوب-سيمبسون التي خلصت إلى ضرورة ضبط الهجرة وربطها بقدرة البلاد على الاستيعاب، لتخرج بعدها الورقة البيضاء لبسفيلد في محاولة للتهدئة (الورقة البيضاء هي وثيقة رسمية كانت تصدرها الحكومة البريطانية لتوضيح سياستها في فلسطين خلال فترة الانتداب)، لكن فحوى هذه الورقة اصطدمت باعتراضات الحركة الصهيونية.
كل ذلك كشف أن حكومة الانتداب كانت على ما يبدو تحاول معالجة الصراع بأدوات بيروقراطية، لكن النزاع على الأرض والهوية كان يتفاقم يومًا بعد يوم.
ومع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، اضطرت بريطانيا لإيفاد لجنة بيل الملكية التي قدّمت "لأول مرة" فكرة تقسيم فلسطين، فرفضها العرب جملة وتفصيلًا، وقبلها بعض الصهاينة تكتيكيًا. لكن لندن سرعان ما عادت إلى مربع المؤتمرات، فعُقد مؤتمر سانت جيمس عام 1939 لينتهي بإصدار ورقة بيضاء جديدة تحدّ من الهجرة اليهودية وتعلن استحالة التقسيم في حينه، وهنا كانت الفرصة الضائعة على العرب. صحيح أن تلك الوفود واللجان لم تكن إلا محاولات لتسكين صراع أكبر من قدرة بريطانيا على احتوائه، لكن في النهاية كان هناك فرصة مهمة كان يمكن استغلالها.
في الأردن، كان المغفور له الملك عبد الله الأول، يقرأ مشهد اللجان بدقة، حيث لم يقف عند حدود الرفض الخطابي كما فعل معظم القادة العرب، بل نظر إلى تلك اللجان – بالأخص لجنة بيل – بعين السياسي الواقعي المدرك لكواليس السياسة الدولية آنذاك. حيث رأى في فكرة التقسيم فرصة سانحة لتحصيل جزء معتبر من أرض فلسطين، على اعتبار أن وعد بلفور قد منح اليهود ما يكفي من الامتيازات، وأن من حق العرب في فلسطين أن ينتزعوا دولة من فم الصهيونية المدججة بالمال والخبرات القتالية المليشياوية. لكن حساباته الواقعية هذه اصطدمت برفض فلسطيني واسع، وبحسابات صهيونية مختلفة، ليبقى موقفه شاهدًا على ذكاء سياسي يسرد اليوم تحت عنوان الندم إذا ما قورن بوضع فلسطين اليوم.
العبرة من ذكر هذه المقدمة التاريخية البسيطة، هو أن نلتفت كعرب إلى سلوك بريطانيا اليوم، وأن نعتبر من الماضي، وألا نضيع الفرصة لانتزاع اعتراف بفلسطين (حتى لو كان معنوي مرحليًا) من الدولة التي ساهمت بشكل كبير في تأسيس كيان "إسرائيل"، فلا يمكن أن يُسمح مرة أخرى للقوى لا تملك أفق سياسي في الخارطة السياسية الفلسطينية أن تمسك بزمام الأمور.
بريطانيا من أهم دول أوروبا، بل يمكن اعتبارها الأهم، وهي المسؤولة تاريخيًا عن مأساة فلسطين اليوم، لذلك فإن اعترافها بدولة فلسطينية هو أقل ما يمكن أن تفعله إذا كنا في معرض المحاسبة التاريخية، لكن لا أحد ينجر أن لهذا الاعتراف وزن كبير لأنه سيجر وراءه الكثير من الدول الأوروبية وربما غير الأوروبية.
المطلوب منا اليوم هو حصار "اليمين" في فلسطين، فقد جرّب هذا اليمين منذ الثلاثينيات حظه وأنتج كارثة لا أحد يعلم عواقبها، وباعتقادي أن الوسطاء اليوم في ملف غزة وبقية الدول العربية مطالبون بفهم المشهد على منوال ما حدث في الثلاثينيات، لأن الخيارات تضيق وتتلاشى كلما أمعن اليمين الإسرائيلي في استثمار الذرائع في السعي لخلق واقع ديموغرافي جديد.
الملك عبد الله الثاني يأخذ على عاتقه نفس العبء الذي كان يحمله جده الملك عبد الله الأول، ولكن بأدوات أفضل بعد تطور علاقات الأردن مع الغرب على مدى عقود، وبحكم قيادته لدولة مستقرة عمرها 104 سنوات وإدراك العالم لحقيقة أن تشخيص الأردن بقيادة الملك للوضع هو الأدق.
اليوم يختفي غالبية قادة حماس عن المشهد في ظل توغل إسرائيلي في مدينة غزة التي تعتبر في غالب الظن آخر معاقل حماس في القطاع، ويستفيد نتنياهو من هذا الغياب الذي جاء بعد ضربة الدوحة التي استهدفت القادة، ويتصاعد الحديث عن الإعتراف بدولة فلسطينية لكن الوضع الميداني ربما سيفسد هذه الجهود بتلويح "إسرائيل" بالتهجير من غزة الذي إن حدث فستخسر الدولة الفلسطينية المنشودة نصف سكانها وجناح مهم من إقليمها وهو قطاع غزة.
في النهاية، أعتقد أن إقصاء بعض التيارات من الخارطة السياسية العربية وخصوصًا الفلسطينية أصبح ضرورة مُلحة في خضم هذا الحراك العالمي ضد "إسرائيل"، فلا يمكن أن نسمح للتاريخ بأن يعيد نفسه ونحن نتفرج دون حراك.