د. أيوب أبودية

هل هناك أجبن ممن يحارب الأطفال والجوعى؟

نبض البلد -
د. أيوب أبودية
في ساحة الحروب والصراعات، يمكن أن يفقد البعض إنسانيته، لكن هناك مستويات من الانحطاط الأخلاقي لا تُغتفر ولا تُبرَّر، مهما كانت الذرائع. فهل هناك أجبن ممن يشنّ حربًا ضد أطفال وجوعى، لا يحملون سلاحًا ولا يشكلون تهديدًا؟ هل هناك ما هو أوضح في الدلالة على الإفلاس الأخلاقي من قتل الرضّع والنساء وتجويعهم، وقصف المخابز ومصادر مياه الشرب ومستودعات الغذاء والدواء؟
غزة، تلك البقعة الصغيرة المحاصرة منذ سنوات طويلة، تقدّم للعالم هذا المثال المروع في المعاناة والصمود معا. ففي عدوانها المتكرر، لم تكتف إسرائيل بآلة الحرب، بل حوّلت الحصار إلى سلاح مدمّر أكثر خبثًا. أغلقت المعابر، منعت الوقود، قنصت من يبحث عن الماء والغذاء، وقصفت مخازن القمح ومولدات الكهرباء والمستشفيات. لم يكن الهدف إسكات مرابض الصواريخ، بل إسكات الحياة برمتها.
في غزة، يصبح الطفل هدفًا مشروعًا. تُقصف البيوت على رؤوس نزلائها، فيموت الرضيع والأم معا، وتُختصر الحياة إلى لحظة رماد. تُلاحق الطائرات ألعاب الصغار في الأزقة، كأنّها تشعر بالخطر من ضحكاتهم البريئة. هل هناك جبنٌ أكبر من محاربة من لا يستطيع الدفاع عن نفسه؟ هل يُمكن لجيش يدّعي أنه الأقوى في الشرق الأوسط أن يخشى من طفل يجلس في خيمة أو يبحث عن لقمة في كومة من الركام؟
الشجاعة في الحرب لا تكون على المساكين والضعفاء، والجوعى لا يُحاصَرون، بل يُغاثون. والشرف العسكري لا يُبنى على قتل من لا يملك سوى الأنين سلاحًا. في غزة، نرى العكس: الجبناء يختبئون خلف طائراتهم ودباباتهم، ويقصفون من وراء شاشات آمنة، دون أن يجرؤوا على مواجهة مقاوم واحد وجهًا لوجه.
القوة حين تُستخدم لقتل الأبرياء والجوعى والمنهكين، لا تصبح سوى غطاء للضعف الداخلي، والمرض النفسي، والتجييش الصهيوني الذي لا يعرف حدا للكراهية، والخوف من صوت الحرية. وكلما ازداد الجبن، زاد العنف للتغطية عليه. كأنّ هؤلاء يظنون أن سحق الضعفاء يرفعهم شأنًا، لكنه في الحقيقة يُسقطهم في قاع التاريخ المظلم.
ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد انتهاك للقانون الدولي أو جريمة حرب؛ بل هو سقوط أخلاقي صارخ يكشف أن من يتحكم في آلة الحرب والدمار لا يبحث عن نصر، بل عن إذلال، وعن ترويع، وعن انتقام من البراءة والضعفاء، وكأنّهم يقولون للعالم: "سنحرق كل شيء، حتى الصمت". ولكن القلة المسلحة بالإيمان التي تحمل السلاح ضربت مثلا في البطولة لن ينساه التاريخ أبدا، كما لم ينسى التاريخ عنترة بن شداد وخالد بن الوليد . 
في حروب العالم كلها، يبقى الاعتداء على الأطفال والجوعى هو الدليل الأوضح على الجبن والخسة. الشجاعة لا تكون في قصف المستشفيات، ولا في تجويع المحاصرين، ولا في دفن الأطفال تحت الأنقاض، بل في الرحمة والانسانية والعدالة. 
غزة تكشف اليوم عن أكثر الوجوه قبحًا في هذا العصر، وعن أجبن عدو عرفه الإنسان الحديث. فالجبن الحقيقي ليس في الخوف من المعارك، بل في اختيار أضعف من في الأرض ليكونوا ضحايا حرب لا شرف فيها ولا إنسانية.
إن التاريخ لا يرحم من استباحوا البراءة، ولا يُبرّئ من اختار صمت التواطؤ أو التبرير. فما يجري اليوم في غزة هو اختبار لضمير الإنسانية جمعاء. ومن يصفق لآلة الحرب وهو يرى الأطفال يُسحبون أشلاء من تحت الأنقاض، فقد تجرّد من إنسانيته، ومن صمته يكون مشاركا في الجريمة.
العالم، الذي انتفض من أجل أوكرانيا خلال أيام، يقف الآن مترددًا أمام أطفال يُذبحون، ونساء تُدفن أحياء، وعائلات تُمحى من السجلات. فهل إنسانية الإنسان تُقاس بموقعه على خارطة النفوذ؟ أين دعاة الديمقراطية والحرية حين يُخنق شعب بأكمله لأنه اختار أن لا يخضع؟
لكن رغم الألم، يبزغ النور من الجماهير التي ساندت غزة من حول العالم، وما استطاع الأردن إليه سبيلا من مساعدات طبية وغذائية. غزة، بهذه البطولة العنيدة، تفضح زيف القوة، وتُثبت أن الكرامة لا تُقصف، وأن الجائع قد لا يملك سلاحًا، لكنه يملك إرادةً تهزّ الجبال. وأن الطفل الذي يكتب اسمه على كفّه خوفًا من أن يُمحى دون هوية، إنما يكتب شهادة حية على فشل من أرادوا طمس التاريخ والوجدان.
سيأتي يوم، وقد لا يكون بعيدًا، تُسقط فيه أقنعة الجبناء، وتُسترد فيه الأرض بقوة حق الضعفاء في الحياة، وبقوة الكلمة، وبثبات الإنسان على إنسانيته. فما من جبانٍ انتصر على طفلٍ إلا وأُسقط اسمه إلى مزابل التاريخ.