نبض البلد -
حاتم النعيمات
تتكاثر مؤخرًا عبارات تحميل الأردن ورز الوضع في غزة ضمن خطاب تورية يهدف إلى تحميل "الأنظمة العربية" المسؤولية عما يحدث في غزة، لتعود الحاجة لطرح السؤال عن جدوى الاستمرار في تجريف الوعي واستغلال بشاعة الإبادة التي تقوم بها آلة الإجرام الإسرائيلية في الهجوم على المنظومة العربية التي تمثل الملاذ الأخير لشعوب المنطقة (شاءت أم أبت)، وعن محاولة خلط الحابل بالنابل من خلال إدانة من ساند القصية ومن لم يساندها.
لنكن صريحين أكثر، فهناك من يريد أن يُظهر الأردن وكأنه مسؤول عما يحدث في القطاع، من خلال تخوين الدولة بداعي أنها لم تدخل في حرب مع إسرائيل وأمريكا نصرةً للأشقاء في فلسطين!!. ولن أتحدث عن موجبات اتخاذ قرار الحرب من قبل أي دولة وعن حسابات الأردن، بل سأترك للقارئ العزيز أن يبحثها هو مع أبسط مبادئ المنطق. لكني سأناقش غايات تكثيف الهجوم على الأردن وتصويره تارة كدولة عظمى تستطيع الوقوف بوجه العالم، وتارة كضعيفة تابعة!!
هناك غايتان من الهجوم على الأردن بتصوري: الأولى، وتتمثل في التعمية عن الخطأ الذي ارتكبته حركة حماس عندما اتخذت قرار الحرب، والثانية، محاولة تكسير سمعة الأردن أخلاقيًا في الذهنية العامة للأردنيين لتصفية حسابات داخلية بين تيار معروف مع الدولة، إذ لوحظ تحرُّك حسابات في الفضاء الإلكتروني ومجموعات في الشارع كاستجابة لإطلاق الناطق باسم حماس شعار "الخصومة أمام الله".
ورغم أن المسؤول الأول والأخير عن كارثة غزة هو الاحتلال بإجرامه الذي لم يكن مجرد رد فعل على عملية السابع من أكتوبر بل هو تنفيذ دنيء لمنهجية الإبادة والتدمير التي تعشش في دواخل قادة إسرائيل، إلا أن عدم قياس الإمور من قبل حماس يجعلها مسؤولة أيضًا بالإهمال -على الأقل- عما يجري، لذلك فإن محاولة رمي الذنب على الأردن والنظام العربي ما هو إلا شكل من أشكال التهرب من الواجبات والمسؤوليات الأخلاقية أمام أهل غزة المكلومين.
للتاريخ والمستقبل، علينا أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، فلا يمكن أن يذهب الموقف الأردني المتقدم جدًا فيما يخص القضية الفلسطينية أدراج الحملات الإلكترونية والتلميحات والتظلّم من قبل أُناس يجلسون في غرفٍ مُكيّفة أمام شاشات مواقع التواصل الإجتماعي، فالأردن قدم أكثر من قدرته في البعد الإنساني والدبلوماسي، ولنتذكر دائمًا أن الأردن دولة لديها مشاكلها الاقتصادية والتنموية، ولديها منظومة علاقات دولية لا بد من المحافظة عليها باتزان وعقلانية، وهي في المحصلة دولة وليست مليشيا تحت طلب مصالح الدول الإقليمية!
لا أقلل هنا من هول مشهد الإبادة والتجويع أبدًا، فما نراه عبارة عن وصمة عار في جبين الدول العظمى التي تملك لقدرة على لجم إسرائيل وخطيئة كبيرة في سجل المجتمع الدولي الذي صدّع رؤوسنا بالحديث عن حقوق الإنسان، ولكن في المقابل فإن ما قامت به الدولة الأردنية أكبر بكثير من إمكاناتها، وساهم بشكل مباشر في صمود الأشقاء وفي تهشيم صورة الضحية التي حاولت إسرائيل ترسيخها لدى العالم.
بصراحة، فالأمور بيد المفاوض الحمساوي اليوم، لنتفق على ذلك، ولو أسقطنا سلوك حزب الله على حماس لفهمنا أن سحب الذرائع من إسرائيل يحرجها ويخفف من إجرامها إلى حدٍ كبير، لذلك فمن حق البعض أن يسأل لماذا هذا التعنِّت من قبل حركة حماس في ظل القتل والدمار والمجاعة؟ ولماذا لا تحذوا الحركة حذو حزب الله مثلًا الذي قدّم مصلحة لبنان على مصالحه؟ ألا يوجد في عرف هذه الحركة مبدأ "تأجيل" المواجهة لأجل دماء الأطفال والنساء والشيوخ في القطاع؟ ألا يفهم قادتها أن الخسائر هائلة على القضية الفلسطينية؟ ألا يفهم المفاوض الحمساوي أن الوقت لصالح إسرائيل اليوم ومخططاتها؟ هذه هي الأسئلة الأخلاقية التي يجب أن تطرح على الطاولة، لا عبارات اللوم على الآخرين وتحميلهم الوزر والذنب.
بطبيعة الحال فالإجابات واضحة على هذه الأسئلة ولا داعي لسردها. ولكن لنتذكر أن هناك مكاسب داخلية لنتنياهو بإبقاء حالة الحرب التي تبعد عنه شبح الإدانة القضائية، وهناك أيضًا فائض دعم أمريكي لإسرائيل مستند إلى شلال الذرائع التي تستخدمها إسرائيل بكفاءة في ضرب دمشق وبغداد وصنعاء وطهران تحت عنوان الدفاع عن النفس!
من هنا، فإن شعوب المنطقة مطالبة بإعادة دراسة طريقة تفاعلها مع خطاب التهور والعواطف ، لأن ما حدث من عقود كافي لإدراك أن هذا النهج في التعاطي فاشل، ولا يستقيم أن يستمر تداول العواطف والشعارات الفارغة في منطقة تحتاج بشكل عاجل للعمل والبناء والتصدي، منطقة تمتاز بديناميكية متسارعة تضخمت فيها إسرائيل جرّاء فشل مشروع أذرع إيران لن يجدي فيها سيطرة الجماعات والمليشيات المتهورة.
ولنكن دقيقين أكثر، فإن ثأر هذه الأمة موجودٌ حصرًا في تل أبيب (المجرم الفعلي)، وفي طهران التي حرّكت أذرعها في مغامرة لتحسين شروط تفاوضها على ملفها النووي، نعم، الثأر موجود في تلك العواصم وليس في عمّان والقاهرة والرياض، لذلك، فإن كل محاولات إدانة من لا ذنب له ما هي إلا تهيئة لمرحلة جديدة من الضياع والدمار.