أبو ديه: الكارثة ليست في مبنى سقط بل بنظام بناء مأزوم من الأساسات حتى التشطيبات
محمود: الانهيار ناجم عن ضعف بنيوي لا علاقة له بهزات أو تفجيرات
القرالة: القانون يمنح المتضررين الحق بمقاضاة المالك أو المقاول أو البلدية عند إثبات التقصير
الأنباط – رزان السيد
في غضون أسبوع واحد فقط، شهدت مدينة إربد حادثة انهيار مبنى سكني، أعقبها إخلاء مبنيين آخرين تحسبًا لانهيارات مشابهة.
مشهد الطوابق المتساقطة والغرف المفتوحة على العراء لم يكن مجرد صدمة عابرة، بل إنذار صارخ يكشف هشاشة النظام الإنشائي، وضعف الرقابة، وغياب خرائط دقيقة لأبنية يتجاوز عمر بعضها نصف قرن.
وبينما تتقاذف الجهات الرسمية المسؤوليات، يترك المواطن الأردني ليعيش في مساكن قد تنهار فوق رأسه في أي لحظة، وسط أرض تتشقق تحت قدميه ببطء.
في هذا التقرير، نفتح ملف الأبنية الآيلة للسقوط في الأردن، ونستعرض الأسباب التي حولت الانهيارات من حوادث استثنائية إلى احتمالات قائمة، بدءًا من التربة الطينية الانتفاخية، مرورًا بالورش العشوائية، وليس انتهاءً بضعف تطبيق كودات البناء والمساءلة الهندسية.
أزمة بنيوية في منظومة البناء
وفي هذا السياق، حذر المهندس المدني، ورئيس مكتب هندسي استشاري، الدكتور أيوب ابو دية، مستشار من أن تكرار حوادث انهيار المباني، كما حدث في إربد مؤخرًا، ليس مجرد صدفة أو حالة معزولة، بل يعكس أزمة بنيوية أعمق في منظومة البناء والرقابة في الأردن، مؤكدًا أن الكارثة ليست في انهيار مبنى، بل في نظام بناء كامل مأزوم من الأساسات حتى التشطيبات.
وأوضح أبو دية خلال حديثه لـ "الأنباط"، أن الأسباب متعددة، تبدأ من غياب المسح الإنشائي للأبنية القديمة، وعدم توفر خرائط أصلية أو معلومات دقيقة عنها، إضافة إلى الإضافات العشوائية وغير المدروسة على المباني، دون مراجعة هندسية أو إشراف فني مختص.
خطورة الطين الانتفاخي.. والبناء العشوائي
وأشار إلى أن الطين الانتفاخي الموجود في مناطق مثل إربد وشميساني ومادبا يشكل خطرًا كبيرًا، إذ يتسبب في تحركات أرضية تؤدي إلى تشققات وانهيارات، مطالبًا بضرورة فحص التربة قبل البناء، وعدم الاكتفاء بتسوية جزئية للموقع.
ولفت إلى أن العديد من ورش البناء تدار من قبل متعهدين غير مؤهلين، وتنفذ على يد عمال غير مدربين، مشيرًا إلى أن الورش أصبحت سوقًا مفتوحة لمن يدفع أقل، بغض النظر عن الكفاءة أو الالتزام بالمواصفات.
ورغم أن الأردن يملك واحدة من أفضل المواصفات الهندسية في المنطقة، وفق أبو ديّة، إلا أن الخلل يكمن في التطبيق والرقابة، وقال: "نقابة المهندسين، ونقابة المقاولين، والبلديات، كلها تتحمل جزءًا من المسؤولية، في مشاريع زرناها كمراقبين لم نجد مهندسًا مشرفًا، وأحيانًا يشرف مهندس كهرباء على بناء خرساني وهذا أمر كارثي.
أما عن مواد البناء، فأكد أن لا جهة تشرف فعليًا على فحص جودة الحديد أو الرمل أو الباطون المستخدم، مشيرًا إلى أن صب الخرسانة في أيام البرد دون مراعاة التفاعل الكيميائي يؤدي إلى ضعفها، خاصة عند فك الطوبار مبكرًا، مما يضعف العقدات والسقوف.
إهمال العزل المائي وتأثير الرطوبة
كما انتقد إهمال العزل المائي، موضحًا أن الماء يتسرب إلى الحديد ويؤدي إلى صدأه وتفكك الخرسانة، وأشار إلى حالة انهيار مبنى في جبل عمان كان يستخدمه راع كمأوى لغنمه، فاختلط الروث بالرطوبة وتسبب في تآكل البنية.
وشدد على أن تعديل الأبنية وتحميلها فوق طاقتها المصممة، كتحويل شقة إلى قاعة أفراح أو مستودع كتب، يمثل خطرًا حقيقيًا، لأن كل بناء صمم لحمل محدد ولا يجوز تغيير استخدامه دون دراسة.
أما عن مقاومة الزلازل، فأشار إلى أن كثيرًا من الأبنية في الأردن لا تطبق حتى أبسط تعليمات السلامة الزلزالية، مثل تقوية الأعمدة وربطها بجدران القص، محذرًا من الأبنية التي تعتمد فقط على أعمدة في الطابق الأرضي "الشقق الطائرة" والتي تنهار بسهولة عند الهزات الأرضية.
وأضاف: "الكهربائي والسباك إذا دخل على البناء يحفر بالأعمدة والجسور لتمديد المواسير دون أي اعتبار إنشائي، وبعد سنوات تنهار البناية ويظن الناس أنها وقعت لوحدها".
كما أكد أبو دية ضرورة إجراء دراسة هندسية معمقة لأي مبنى قائم قبل إضافة طابق أو أكثر عليه، قائلًا: "لا يجوز لأي مصمم أن يبدأ العمل على تصميم إضافات قبل وجود تقرير فني من مكتب هندسي مختص، مدعوم بفحوصات مخبرية دقيقة وحسابات إنشائية تثبت قدرة الأعمدة على تحمل الأحمال الجديدة"، وأضاف: "أحيانًا يكتفى بورقة من مكتب هندسي تفيد بأن المبنى يتحمل الإضافة، ويوافق عليها في النقابة، وهذا أمر خاطئ وخطر".
واقترح أن يتم اعتماد قائمة تضم 10 إلى 20 مكتبًا أو مختبرًا متخصصًا في هذا النوع من الدراسات، على أن تثبت هذه الجهات كفاءتها بشهادات وخبرة موثقة، لضمان دقة التقييم، ومنع الفوضى في إصدار تقارير السلامة الإنشائية.
واختتم أبو دية بالقول: "قضية الانهيارات معقدة ومتشابكة، ويمتد أثرها إلى المسؤولية القانونية، فالقانون المدني الأردني ينص على أن المصمم والمشرف والمتعهد متضامنون بالتعويض لعشر سنوات بعد الاستلام، أما المباني القديمة فلا أحد يحاسب عنها، ومع ذلك، يظل القرار الأول والأخير غالبًا بيد المالك، الذي يتدخل في كل تفاصيل التصميم والتنفيذ، حتى لو خالف كل المعايير الهندسية".
وأكد أن لكل مبنى عمرًا افتراضيًا، ولا يصمم ليعيش إلى الأبد، وغالبًا ما تكون المدة 50 إلى 70 سنة، وبعدها يجب أن يعاد تقييمه أو هدمه، قائلًا:"لكن عندنا، نعيش وكأن الأبنية خالدة".
السبب الحقيقي لانهيار مبنى إربد
من جهتها، استبعدت المهندسة الإنشائية، روان محمود، وجود علاقة بين الانهيار الذي وقع في إربد وأي هزات أرضية أو تأثيرات ناتجة عن صواريخ أو تفجيرات، مؤكدة أن السبب الرئيسي يعود إلى الضعف الإنشائي البنيوي في المبنى ذاته، وليس لعوامل خارجية.
وأوضحت في حديثها لـ"الأنباط" أن المبنى المنهار كان يعاني من عدة مؤشرات خطرة لم تتم معالجتها، مثل الشروخ في الأعمدة، وتآكل الخرسانة، وربما وجود تعديلات سابقة دون دراسة هندسية، وهذه عوامل كافية لتؤدي إلى انهيار حتى دون أي مؤثر خارجي.
وأضافت، لم تسجل محطات الرصد الزلزالي في المنطقة أي هزة أرضية تزامنت مع لحظة الانهيار، كما أن الحديث عن تأثير صواريخ أو تفجيرات لا يستند إلى أي معطى فني أو واقعي، وهو تفسير غير علمي يجب الحذر من تداوله.
وأكدت أن المشكلة في كثير من المباني القديمة تكمن في إهمال الصيانة، وضعف المتابعة الفنية، وعدم إجراء تقييم إنشائي دوري، مما يجعلها معرضة للانهيار بمجرد تحميلها فوق طاقتها أو تعرضها لعوامل بيئية قاسية كالرطوبة أو التسربات المزمنة.
المسؤولية القانونية وحق التعويض
ومن جانبه، أوضح المحامي سفيان القرالة، أن القانون الأردني يتيح للمواطنين المتضررين من انهيار المباني أو إخلائها بسبب الخطر الإنشائي، التوجه إلى القضاء والمطالبة بالتعويض، وذلك استنادا إلى مبادئ المسؤولية التقصيرية المنصوص عليها في القانون المدني.
وقال القرالة في حديثه لـ "الأنباط"، إن المادة 256 من القانون المدني تنص صراحة على أن "كل إضرار بالغير يلزم فاعله بالتعويض"، ما يعني أن أي جهة يثبت تقصيرها، سواء كانت المالك أو المقاول أو المصمم أو حتى البلدية، يمكن ملاحقتها قانونيًا.
وأشار الى أنه قبل الحديث عن مسألة التعويض عن الضرر، لا بد من النظر في عدة أمور أساسية، موضحًا أن أولها هو التقرير المفصل المتعلق بحادثة الانهيار، والذي يعتمد عليه في تحديد عدد من المسائل، أبرزها سبب الانهيار، وما إذا كان ناتجًا عن تقصير أو عيب في البناء، سواء من المصمم أو المقاول، أو نتيجة خلل في الأرض المقام عليها البناء، وهو ما يعد تقصيرًا من الجهة التي منحت الرخصة.
وأضاف، أن الأهم من ذلك كله هو التأكد من أن المواد المستخدمة في البناء مطابقة للمواصفات وصالحة للاستخدام، مؤكدًا أن هذه العوامل مجتمعة هي التي تحدد حجم الضرر والمسؤولية في موضوع التعويض.
تقاطع المسؤوليات بين الجهات
وأشار القرالة إلى أن الجهة المانحة للرخص عادة ما تكون أمانة عمان أو البلديات في المحافظات،لافتًا إلى أهمية أخذ التعاون بينها وبين وزارة الأشغال بعين الاعتبار، وبين أنه لا يمكن تحميل المسؤولية كاملة على البلدية أو الوزارة إذا ثبت أن الرخصة مستوفية للشروط والمواصفات، حيث تنتقل المسؤولية حينها إلى المصمم أو المقاول.
وشدد على أن المسألة الأهم في تحديد المسؤولية تكمن في معرفة السبب الرئيسي للانهيار، وهو ما يوضحه التقرير الفني الصادر عن الدفاع المدني، والذي يبين بشكل مفصل موقع التقصير وأطرافه.
وأردف القرالة أن القانون المدني الأردني يقر أيضًا ما يعرف بالضمان العشري، والذي يحمل المصمم والمقاول مسؤولية مشتركة عن أي خلل إنشائي يؤدي إلى انهيار كلي أو جزئي خلال عشر سنوات من تاريخ تسليم البناء، موضحا أن هذا المبدأ ينطبق حتى على المباني المرخصة إذا ثبت وجود إهمال أو مخالفة في التنفيذ.
وفيما يتعلق بالمباني القديمة، أكد القرالة أن غياب نص دستوري صريح لا يعني غياب الحماية القانونية، موضحًا أن المبدأ العام في القانون يحمي المواطن من الأضرار الناتجة عن الإهمال، وأن المحاكم يمكن أن تستند إلى هذا المبدأ في إصدار أحكام بالتعويض، خصوصًا إذا ثبت أن الجهات الرقابية لم تقم بدورها أو غضّت الطرف عن مخالفات واضحة.
وحذر القرالة في ختام حديثه من خطورة التباطؤ في اتخاذ إجراءات الإخلاء أو إجراء المسوحات الفنية للمباني القديمة، مشددًا على أن البلدية أو الجهات المختصة قد تتحمل المسؤولية القانونية إذا ثبت أن الإهمال أو التأخير أسهم في تفاقم الخطر أو وقوع الكارثة.