بين الطفرات والتناقضات.. تحليل معمق لمنشورات ترامب على Truth Social و X
الأنباط – رزان السيد
منذ بدء ولايته الثانية في 20 كانون الثاني (يناير) 2025 وحتى 13 تموز (يوليو) من العام ذاته، كرس الرئيس الأميركي دونالد ترامب حضوره الرقمي كسلاح سياسي وإعلامي لا يقل فاعلية عن خطابه في البيت الأبيض.
ففي 175 يومًا فقط، نشر ترامب نحو 2999 منشورًا على منصة Truth Social، بمعدل يفوق 17 منشورًا يوميًا، فيما اكتفى بنحو 132 تغريدة على منصة X (تويتر سابقًا)، ما يعكس توجهًا واضحًا نحو منصته الخاصة التي باتت مسرحه المركزي لنقل الرسائل، وإطلاق الهجمات، وإعادة تشكيل الصورة الجماهيرية.
وتيرة النشر.. الكم لا يقاس بالتأثير
وتشير البيانات المستندة إلى واشنطن بوست وFactba.se إلى أن ترامب نشر 2,262 منشورًا خلال أول 132 يومًا من ولايته، بمعدل 17.1 منشور يوميًا، ومع إضافة 737 منشورًا تقديريًا خلال الفترة من 1 يونيو وحتى 13 يوليو، يبلغ العدد الإجمالي نحو 2,999 منشورًا علىTruth Social.
أما على منصة X، فقد بلغ إجمالي التغريدات منذ 20 يناير حتى 13 يوليو نحو 132 تغريدة فقط، معظمها عبارة عن إعادة نشر لمحتوى أصلي على Truth Social، بمعدل لا يتجاوز 0.75 تغريدة يوميًا.
منشورات تتناقض مع نفسها
رغم غزارة المنشورات، إلا أن الخطاب الرقمي لترامب يتسم بتناقض واضح في النبرة والمضمون، فإنه من خلال تحليل البيانات الصادرة عن منصةFactba.seوتقارير Roll Call، تبرز أمثلة لافتة لتصريحات وادعاءات مثيرة، سرعان ما يتراجع عنها أو يخفف من حدتها.
وفي إحدى منشوراته علىTruth Social في أوائل حزيران، أعاد ترامب نشر مزاعم مجنونة، تتحدث عن أن الرئيس جو بايدن تم تنفيذه في 2020 واستبداله بروبوت أو بديل اصطناعي، وكان المنشور كالتالي: "لا وجود لجو بايدن – تم إعدامه في عام 2020. ما ترونه هو نسخ مستنسخة، وأشباح مكررة، وكائنات آلية مصممة بلا روح أو عقل. الديمقراطيون لا يميزون الفرق."
وفي 18 نيسان، هاجم بقسوة النظام القضائي معلقًا: "ما الذي يحدث مع محاكمنا؟ إنها خارج السيطرة تمامًا… هذا القاضي المتطرف يقول إن جو بايدن النعسان يستطيع الطيران."
بينما في اليوم التالي، نشر رسالة رسمية خالية من أي مظهر هجومي عند إعلان حضوره جنازة البابا: "ميلانيا وأنا سنذهب إلى جنازة البابا فرنسيس في روما. نتطلع إلى التواجد هناك!"
هنا، نلاحظ تناقضًا صارخًا، من خطاب عدواني متفجر، مليء بالاتهامات والمغالطات والخرافات الليلية، إلى نبرة احترامية راقية تتبع مناسبات رسمية، ويجسد هذا ازدواجية نبرة واضحة.
ومن الممكن تفسيره بأن نموذج الليل لدى ترامب، يعني العنف أو شخصية ترامب على المنصات، بينما في النهار تكون نبرته رسمية أو شخصية ترامب الدولة، وهذا يعكس شخصية تستخدم هجومًا لتعبئة القاعدة، وترقًا لتجميل صورتها أمام الجمهور الرسمي والأجنبي.
في الأول من تموز 2025، شن ترامب هجومًا لاذعًا على الشارع القضائي عبر Truth Social، قائلًا: "قضية كبيرة اليوم في المحكمة العليا للولايات المتحدة. المواطنة بحكم المولد لم تكن مقصودة للأشخاص الذين يأتون في عطلات ليصبحوا مواطنين دائمين.. إنهم يضحكون على 'الأغبياء' الذين نحن عليهم!"
وتحمل النبرة غضبًا شديدًا واستهزاءً مباشرًا بالمحكمة العليا والمواطنين الذين يحترمون القوانين، بوصفهم "سخيفين".
وبعدها بساعات قليلة رفع منشورًا لطيفًا عن "كلبه" قائلًا: "انظروا إلى هذا الكلب. اسمه تشيب. حيوان رائع. ذكي، وفيّ، ولا يتحمل تفاهات أحد... بعض الناس يقولون إنه ذكاء اصطناعي.. ربما يكون كذلك - لكنه أذكى بكثير من معظم الأشخاص الذين يديرون بلدنا حاليًا."
وهنا أيضًا يظهر التناقض الجوهري في منشوراته، إذ يكون عدائي ملفت، هاجم المحاكم العليا ووصف المواطنين بـ "السخيفين"، وبعدها بقليل أظهر جانبًا إنسانيًا عاطفيًا في الحديث عن كلبه"Chip"، بسخرية لاذعة بحق السياسيين.
أي، في أقل من يوم، نرى تحولًا مفاجئًا من العداء المؤسسي الرسمي، إلى تصوير شخصي محايد وودي، يمكن القول أن ترامب يستخدم المنصة لمزج الملفات الساخنة مع المشاهد اليومية المحببة، ليخلق شخصية رقمية مرنة وقابلة للعب بالخطاب حسب الجمهور المطلوب.
الهجوم كأداة قانونية
منشورات ترامب التي تطال جامعات، إعلاميين، ومسؤولين، تستخدم اليوم كأدلة في سياقات قضائية متصاعدة، فعلى سبيل المثال، تم توثيق عشرات المنشورات كأدلة تحريض في قضايا تتعلق بخطابات الكراهية أو تحميل المسؤولية للمؤسسات الأكاديمية مثل جامعة هارفارد.
وهنا لا يبدو أن الإفراط في النشر مجرد وسيلة تعبير، بل تحول إلى عامل محاكم عليه سياسيًا وقانونيًا.
الشخصية الرقمية لترامب.. حضور عدواني متسلسل
واستخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل السلوك الرقمي لترامب، من خلال تتبع أنماط النشر وتواترها، ودراسة اللغة المستخدمة في منشوراته لفهم آليات الخطاب وأبعاد الشخصية الرقمية.
وأظهرت أنماط النشر أن ترامب لا يتعامل مع المنصة كأداة تواصل فحسب، بل كامتداد عضوي لشخصيته السياسية، فالنشاط الكثيف، خصوصًا في ساعات الليل، يعكس حاجة مستمرة لتأكيد الذات والبقاء في صدارة المشهد الرقمي، وكأنه يخشى الفراغ الإعلامي.
ويبدو واضحًا أن تحكمه بمنصة يملكها يمنحه حرية مطلقة لإعادة صياغة الرواية التي يريد، دون مساءلة أو رقابة، ما يحول Truth Social إلى آلة دعائية تعكس رؤيته دون فلترة.
ولا يقتصر دافع النشر على البعد السياسي فقط، بل يبدو أن هناك استثمارًا مزدوجًا نفسيًا وماديًا في بناء الحضور الرقمي وتوسيع النفوذ الشخصي، خصوصًا أن المنصة ترتبط مباشرة بمشروعه الإعلامي والمالي، وفي مقابل ذلك، تتجلى ازدواجية واضحة في نبرة الخطاب؛ إذ ينتقل بسهولة من لهجة عدائية مليئة بالاتهامات والهجوم، إلى نبرة رسمية رصينة في المناسبات أو البيانات الدولية، ما يعكس شخصية رقمية متقلبة تستخدم الأسلوب الذي يخدم اللحظة والسياق.
كما يتّسم سلوكه الرقمي بالاندفاع اللحظي، إذ تأتي الكثير من منشوراته كردود فعل فورية على أحداث آنية، بنبرة منفعلة ومشحونة، ما يضفي على حضوره الرقمي طابعًا سريع التقلب وعالي الأدرينالين، ويجعل من المنصة أداة يومية لإعادة تشكيل صورته، وليس مجرد وسيلة تواصل سياسي تقليدية.
نرجسية ترامب
وفي محاولة لفهم أعمق لشخصية ترامب، تم إجراء تحليل شامل استنادًا إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي تعتمد على نماذج تفسير السلوك البشري، إذ جرى رصد وتقييم أنماط تواصله، قراراته، خطابه العام، وسلوكياته السياسية والاجتماعية، بهدف رسم ملامح الشخصية العامة التي تحكم حضوره السياسي والإعلامي.
ويتسم دونالد ترامب بدرجات عالية من النرجسية، إذ يحتاج باستمرار إلى الإعجاب، ويضخم إنجازاته بينما يقلل من أخطائه، ويقيم كل شيء وفق ما يخدم صورته الذاتية؛ وهذا يتجلى مع ميله إلى التفكير الثنائي الذي يقسم العالم إلى رابحين وخاسرين، أصدقاء وأعداء، دون مساحة للتدرج أو الحلول الوسط.
ويعتمد في تواصله أسلوب المواجهة الدائمة والهجوم الاستفزازي، ما يعزز شعور أن قوته تكمن في تصدير العداء، وفي الوقت نفسه يخفي دفاعًا ذاتيًا عن شعور بعدم الأمان، كما تتجلى لدى ترامب صفة التمركز حول الذات التي تدفعه لاتخاذ قرارات مبنية على مصالحه الخاصة أو رؤيته الذاتية للواقع، متجاهلًا المؤسسات والتقاليد الديمقراطية.
ويبرز في خطاباته بعد شعبوي انفعالي تركز على القضايا المثيرة للغضب أو الخوف، مستخدمًا عبارات بسيطة ومشحونة تأسر قاعدة واسعة من المؤيدين، فيما يرفض الاعتراف بأي خطأ أو تحمل المسؤولية، ويلجأ إلى اتهام الآخرين أو نشر نظريات المؤامرة لحماية صورته.
وعند مواجهة ضغوط كبيرة، لا يتردد في تبني روايات إنكارية أو مشكوك فيها، حتى لو تعارضت مع الواقع الواضح، بينما يدل ذكاؤه الاجتماعي الواضح على قدرته التكتيكية في الاستفادة من الإعلام وتحريك الجماهير لخلق حضور سياسي مستمر.
تأثير محدود خارج الفقاعة
ورغم الحضور الطاغي على Truth Social، إلا أن الأرقام لا تعكس بالضرورة فعالية جماهيرية واسعة، ففي نوفمبر الماضي، ارتفع عدد المستخدمين النشطين بنسبة 3% فقط ليصل إلى 355,000 مستخدم أسبوعيًا، ما يشير إلى أن ترامب يخاطب جمهورًا مؤمنًا به أساسًا، دون توسيع حقيقي لدائرة التأثير.
ويعزز هذا الواقع ما يعرف بفقاعة الصدى، حيث يتم إعادة تدوير الخطاب ذاته داخل دائرة مغلقة، دون تمكن من جذب أصوات جديدة أو إحداث اختراق خارج القاعدة التقليدية.
بين الإعلام الرسمي والحضور الرقمي
يختزل ترامب الفجوة بين التمثيل الرسمي والمحتوى الرقمي بسلوك اتصالي منفلت، يعكس توجهًا لإدارة الحكم من على منبر شخصي، غير خاضع للمساءلة أو المراجعة الإعلامية، فهو يؤسس إعلامه الخاص بيديه، وبنفسه، دون الحاجة لمرآة النقد أو توازنات المؤسسات.
في عالم تتسارع فيه آليات الاتصال السياسي، لا يكتفي ترامب باستخدام المنصة، بل يصبح هو المنصة، وبينما ينظر إلى الخطاب الرقمي كمساحة للتعبير، يراه ترامب كساحة معركة، يخوضها بمنشور تلو الآخر، في حرب لا تهدأ، وإن كانت لا تكسب دائمًا.