الأدب السياسىّ وأدب الحروب

نبض البلد -
أصدقائى الأعزاء لكل من أُعجِبَ بكتاباتى فى الأدب السياسىّ وأدب الحروب أى ذلك الأدب النابع من تجربة صراع وحرب، تعرفت صدفة على ما يعرف ب "أدب السجون" وما يرويه من سرد حقيقى لقصص أصحابه داخل جدران السجن وحكاياتهم مع الثورة والسجن فهزنى ذلك حقاً من الأعماق، وقادنى ذلك لعمل تحليلات ومقارنات بين السجين السياسى والجنائى، كإنسان أخطأ أولهما بحق الوطن، وثانيهما بحق الشعب... وأدركت حينها أن للكلمات التى خرجت من داخل أسوار السجن ذاته نشوة لا تقارن ولا يشعرها إلا الهارب بها خاصةً تلك التى تلاحقها أصابع السجان وهى تعبث بين الأوراق والجدران تبحث عن أحرف ثورة ومعركة قد تقود بصاحبها إلى التحرير، فلكل حرف حكاية داخل أسوار السجن وكل حكاية وراءها جدران وليل طويل وسجان قاس القلب لا يعرف قلبه للرحمة طريقاً... لا يفوق رهبة التغييب قتلاً إلّا رهبة التغييب إعتقالاً... وكان من أعظم ما سمعت رعباً ، قول أحدهم: لا أخاف أنْ أُقتل، أخاف أنْ اُعتقل، وإليكم نص كلماتى اليوم: لماذا تكتبين، ولمن؟.... أجبت بإختصار، فى كل الأحوال سوف أكتب لكل هؤلاء الذين يقرؤون صحيحُ أنكِ تكثرين من الحديث إلى ذاتك؟... فشرحت ذلك لأننى حقاً أُكلِم نفسى والأشياء من حولى أكثر مما أكلم الناس، لعلى قرأت فى مكان ما أن هذه علامة من علامات الجنون، لكن لا بأس، فقد قرأت أيضاً أن الجنون ملازم للعبقرية! وعندما قامت الحرب، كان أكثر ما أزعجنى بكاء أم لم تستطع إحتضان صغيرها والنظر في عينيه البريئتين ووعده بأن لا سوء سيقترب منه، وأن الأمان هو عهده بالحياة ما حييت؟؟!! لماذا أراكِ اليوم ساخطة وزاهدة فى الحياة؟... ساخطة على هذه البقعة من الأرض التى باتت مسكني... هذه القرية المنفية من خارطة الزمن... ملعون هو الوقت... ملعونة أنا به... وطفقت أصرخ بأعلى صوت لى ((على هذه الأرض ما تستحق حياة)) ما الذى تحتاجينه الآن فى تلك المرحلة من العمر؟... لقد أدركت الآن كم نحن يا سيدى نحتاج للإعتراض أحياناً وبقوة نحتاج للتمرد... نحتاج لرفض أشياء قبلناها معظم العمر!... نحتاج لتبديل أسطوانة حرصنا العمر على الإستماع إليها وترديدها كأغنية من التراث!... وأنتَ جئتنى فى مرحلة بدأ الهدوء يخيم بها على أحلامى وأحزانى، لهذا أحتاج كى أصلك إلى الكثير من التمرد لقد أصبحت الآن أكثر إيماناً بأننا كعرب لا نلقي أهمية لأحد إلا بعد تشييع جثمانه!... فعندما تولد غريب على أرض لا تعرفها... تأكد أنك ستموت غريب فى قبرٍ لا عُنوان له حاولت كثيراً العثور على لغة تليق بحزنى... بحثت مطولاً فما وجدت فى بوح الآخرين شيئاً يروى معاناتى... فإكتفيت بنزف قلمى على أوراقى... قالوا لى كلماتكِ جميلة... وقلت لهم بل أحزانى أجمل هل شعرتِ بالخوف عند الفرار من الحرب؟... أجبت باكية كان الخوف عبارة عن رسالة تطوف داخل صاحبها أبت أن تظهر وبحثت لها عن مكان للإختباء وسط الركام... فهل هناك مكان أفضل من جدار الذكريات؟... جدار بنيناه بأيدينا لنحبس أنفسنا داخله كأغنية من التراث ! من أبشع صور توثيق الحرب التى رأيت كانت فيديو لجندىٌ داكن الملامح منحنى أسفل الصورة تماماً... بللت الدماء والأشلاء خوذته، لكنه لم ينتبه أبداً ، فقد كان منهمكاً بفك تلك الساعات الجلدية المتواضعة عن معاصم الأطفال الذين قتلهم منذ قليل... فتباً لمن أشعل فتيل تلك الحرب! وماذا فعلتِ عندما إندلعت تلك الحرب؟... كُل ما كان بوسعى فعله هو أننى مشيت وكأننى غريبة عن هذا المكان، لا شىء يعرفنى، ولا كاد أعرف شيئاً ، رغم أننى عشتُ بينهم منذ سنين، ولم أكن فى حاجة إلا أن أمشى فى هذا الطريق عرته الدهشة وهو يأتى على ذكر وطنه فى الغربة. .. وكالغارق تحت ثقل اليأس... بدأ يهرف بتمتمات: ”كأن العالم جن جنونه... رياح الخوف أتت قبل موعدها... والشمس اللاهبة أشد قسوة مما عرف عنها فى أى وقت آخر”... حمل همومه بيد والناى بيده الأخرى ليمزق وحشة الليل... وقال: "لم يبقى لنا ما نأكله... سأشرب حد الثمالة وأغنى"... وها أنا ذا أغنى! ما هو تاريخ وطنك... ضعى ملخص له؟... أجبت حزينة، لم يكن وطنى فى تاريخ الشعر والعشق العربى مجرّد أرض تعبر قلب عاشق مغرم به، يصدّه أو يصله، يلتقيه أو يفارقه، بل هو أبعد من ذلك وأجمل... فالجنون والعشق كله فى وطنى، واللذة فى إكتمال فرحه والوجع فى قسوته وبعده ماذا يحدث إذا ما إختليتِ بنفسك فى الغربة؟... إن أول ما يعترينى فعلاً هو إننى إذا ما خلوتُ إلى قوم أحدّثهم... إلا ووطنى كان حديثى وأملى، ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ... إلا رَأَيْتُ خيالاً منه فى الكـأسِ حدثينا عن أول قصة حب مر بها قلبك فى وطنك؟... بصراحة ًشديدة لم أكن أعرف الحب الناعم، كان حبى له قديماً بدائياً دموياً قاسياً ، ينغرز بقوة فى القلب كالحلفاء، ويمزق أنامل الروح الرقيقة إذا همّت بإقتلاعه ما الذى أضافته لكِ الحرب؟... بكيت والدمع يغرق عيناى أضافت لى الحرب أعواماً فأصبحت مسنة جداً ، جميع الدول أجلت رعاياها أيضاً فلا أحد يريد الموت فى أرضنا، تركونا نواجه مصيرنا وحدنا نحن أبناء هذه الأرض، وهذا الطين... تركونا بعدما أكلوا خيراتنا ماذا سيحدث لو ولدت أميرة؟... ليتنى ولدت أميرة! ما الذى سيتغير فى هذا الكون لو أننى أميرة، لن يتغير شىء وربما الكثيرون لن يسمعوا بى لكن يكفينى أننى سأكون أميرة! لماذا إنفصلتِ عمن تحبين؟... وحين ألتقى أحد الفضوليين ويسألنى عن إنفصالنا كنت سأخترع من جديد أسباباً جديدة تروقنى أكثر عن ذى قبل، لذا فأنا فى كل مرة سأورد أسباب إنفصال جديدة كنت حتماً سأخترعها لكل من كان يسألنى فى تلك اللحظة، وسأنساها حتماً فى اليوم التالى... فأنا حقاً ربما لم أعرف حتى الآن الحب ما الفرق بين الحياة والموت وقت الحرب؟... إن الأمر برمته يمثل إختباراً للإنسان من أجل إثبات مدى إستطاعه التضحية بحياته التى تعد أغلى ما يملكه، مقابل تحقيق الإنتصار لقيم وأفكار ومعتقدات كان يؤمن بها وصرخت فىّ جدتى... لابد أن نعترف وأن نقر بكل صدق أننا فشلنا فى كل شىء، فشلنا فى مواجهة الحرب، لابد أن نعترف أننا جزءاً من هذه الحرب بل من صنعها، صمتنا تجاه كل شىء كان أكبر سبب فى إستمرار لعنة الحرب فى أوطاننا... كلنا نعم كلنا وليس بعضاً منا كنا جزءاً من هذه الحرب خلال جولتى فى شوارع المدينة بعد إنتهاء تلك الحرب وجدت أناساً لهم نفوساً أوسع من الحرب، وقلوباً تتقارب بعضها من بعض رغم أنف كل تلك الظروف القاسية ورغم أنف الحرب وبينما أنا أتجول فى شوارع مدينة دمرتها آلة الحرب، صرت أصرخ فى الجميع، لماذا أنتم هنا؟ من تُحارِبون؟ ولماذا؟ وما الذى تحملونه بين أيديكم؟ وما الذى تتمنونه الآن فى هذه اللحظة؟ فبدلاً من أن يحدثك أحدهم عن أحلامه التى يتمنى تحقيقها فى المستقبل، سيجيبك: أتمنى ألا أُقْتل فى هذه الحرب، أتمنى أن أعيش ويعيش أولادى، فقط لا غير... وتلك هى أقصى أمانيهم من أى صنفٍ من البشر أنتِ؟... أنا من هؤلاءِ الذين لا تحِبُّهم السُلطةَ ولا تُحبّ السُلطة، فأنا من هؤلاء الذين لا يُقدّمون شكواهم بتاتاً لها، لأننى أؤمن بأن "كل الذين نكتب من أجلهم حتماً لا يقرؤون" سألنى محدثى أى مهنة تمتهنين: الكتابة أم لعبة السياسة؟... فحكيت له... بعد أن أنهيت سنوات دراستى الثانوية وإتجهت بعدها لدراسة السياسة إستجابة لآمال ورغبة والدىّ، قلت لنفسى معاتبة أننى يمكننى أن أستمر فى الكتابة، ولا بأس أن أتخذ السياسة مساراً لحياتى فيما بعد! وأخيراً ، قبل الثورة بزمنٍ بعيد، وبعدها على نحو مُفرِط... أدركت أنه كم من مقتول دُفِن وهو على قيد الحياة... وأنا منهم... قتيلٌ ما زال على قيد الحياة... ربما الآن فقط أكثر من أى وقت آخر مضى أصبحت قادرة أكثر على الكلام، صرت قادرة أيضاً على وصف بعض ما حدث، فقد بدأت أتأكد من أننى ما زلت على قيد الحياة ولم أمت... ولم يمت هذا الحُلم الذى أسمع صداه داخلى... ومن بعدها صرخت فى وجه الجميع: أأنا بخير؟
الدكتورة نادية حلمى