حين تمرض الاوطان, تستعيد ارثها وماضيها, فتستنهض همم رجالاتها, والرجال وطن ايضا, وعندما تحيط بهم العواصف, يتدثرون برداء الشرف الموروث, فالعباءة لا تُشترى, بل يرثها الرجل من رجال, ومن إرث محمول على الاكتاف كما العباءة, وفي مشهد مثقل بالأزمات وتحوّلات الجغرافيا والإنسان، يبرز من بين الركام رجالٌ يثبتون أن المروءة ليست أثرا تاريخيا، بل قيمة حيّة تؤكّد حضورها كلما ضاقت الأرض بأهلها, من هؤلاء، الشيخ أحمد نايف الجربا, بل في مقدمتهم, ليس بوصفه واحدًا من المواقف الإنسانية النادرة, التي ظلت تعمل بعيدًا عن ضجيج المنابر وبهرجة الظهور, فهو ليس امتدادًا لبيت كرمٍ فحسب؛ بل استمرارا لمدرسة أخلاقية أرساها والده، المرحوم نايف الفصيل الجربا، ورعَاها عمّه سعود الفيصل, مدرسة تُعلّم أن الثروة تُختبر حين تكون يدا تمتد للمحتاج، وأن الجاه يفقد قيمته إن لم يكن ظهرا للضعفاء.
ترك السهل لاهله ومشى في الوَعر
حين توالت النكبات على المدن المنكوبة، من حصار داعش إلى انهيار الخدمات الصحية، كان شيخنا, في قلب خريطة الإنقاذ, كيف لا, وهو ضابط الدروع في القصر النبيل, قبل ان تداهمه الانقلابات والتقلبات, فلم يكن مجرد متبرع، بل مُسيّرا لخطوط الحياة, أجهزة طبية تُشغَّل في توقيت قاتل، أدوية تُرسل إلى مناطق انقطع عنها كل شيء، وإغاثات تُوزّع على فقراء لم يصلهم صوت أحد, كان حضوره يتم عبر أفعاله لا عبر صورة, ولذلك بقي اسمه يتردد همسًا بين المحتاجين، وصراحةً بين من عرفوا حجم ما قدمه.
الاستثمار في الانسان
في زمن تتعثر فيه أحلام الشباب، اختار أحمد أن يكون كفيل المعرفة, التي اتقنها بإرث ابيه واجداده, وزينها بشهادة الاقتصاد من لبنان في عصرها الذهبي, فأرسل طلابًا إلى الجامعات الأوروبية والأمريكية، دون ان يعلم ان الطعنة, ستأتيه من اقربهم اليه, واكثر من رعاه, لكن الطعنة زادته ثقة بالاستثمار في الانسان, فبقي على عهده, يرسل طلاب علم, ويتكفّل بمصاريفهم كاملة، ووصل بهم إلى أبواب الماجستير والدكتوراه, لم يسأل عن انتماءاتهم، ولم يستفسر عن أصولهم؛ فقد كان معيارُه الوحيد هو الحاجة والطموح,بهذا، صار أثره ممتدًّا في أجيال من المتخصصين, الذين حملوا نجاحهم على كتف رجل, آمن بأن العلم هو الاستثمار الذي لا يخيب.
حضر حين غاب الكثيرين
حين تهجّر الناس من الموصل وغيرها تاركين خلفهم البيوت والأموال والذكريات، كان أحمد الجربا, أول الواقفين في فجوة الانهيار, فالشاب الذي غادر وطنه قهرا وغمدا, في العام 1969 , فتح أبوابه، مدّ يده، سدّد الديون، وأرسل الرواتب، وساند الأسر المشتتة في أصعب سنواتها, حتى تبقى على ارضها, ولم يكن عطاؤه مقصورًا على دائرة قريبة؛ بل شمل المحافظات كافة، وبقوائم طويلة من المرضى والمحتاجين الذين وجدوا عنده ما عجزت المؤسسات عن تقديمه.
كان في الظل ظلّهم
رغم اتساع رقعة أعماله، بعد صبر وجهد, وبعد تعب وكدّ, فهو وإن كان من بيت ميسور, الا ان رحلته في العربية السعودية, التي يحمل في قلبه لها ولقيادتها وفرة من محبة وولاء, لم تكن سهلة,ظل أحمد وفيًّا لقاعدة أصيلة تربّى عليها, "الخيرُ يُفعل ولا يُعلن", لا صور، لا تصريحات، لا طبول, عملٌ يذهب مباشرة إلى من يستحقه، لا يمرّ عبر وسائل الإعلام ولا عبر حسابات الإشهار, وكان هذا الصمت جزءًا من هيبته؛ فالرجل الذي يقدّم ولا يتحدث، هو رجلٌ يعرف أن العظمة تُقاس بالأثر لا بالصوت, بمساعدة المحتاجين وليس بهدايا ماسية للمسؤولين.
نسبه شرفا واسمه نسبا
إن الحديث عن أحمد الجربا ليس استحضارًا لشخص، بل استدعاءٌ لنموذج, نموذجٌ يجمع بين رزانة الحكماء وشهامة السلف، وبين القدرة على التأثير ورفض الاستعراض, هو رجلٌ حمل عبء الآخرين كما يحمل الإنسان مسؤوليته عن نفسه، وجعل من فعله الإنساني وثيقةً مضيئة في زمن شحّت فيه المروءة وتكاثرت فيه المحن, رغم الطعنة الغادرة التي تلقاها من ربيب قريب, تربى في كنفه, وتعلم من ماله واشركه في تجارته, لذلك, يظل أحمد, شاهدًا على أن الرجولة موقف، وأن الكرم سلوك، وأن النبل ميراثٌ لا يشيخ.