المدنية نعمة أم نقمة ...

نبض البلد -
ابراهيم ابو حويلة 


في عصور الظلام الذي كانت تحياه اوروبا وصراعاتها الداخلية ، وحربها على العلم والعلماء والمفكرين ، وغياب الحريات والقمع والظلم ، كانت هناك الكثير من الدول عبر هذا العالم تحيا إنتعاشا إقتصاديا فكريا سياسيا إجتماعيا ، كانت حضارات أمريكا الجنوبية الأنكا وغيرها ، وكانت دول في آسيا الصين وكانت دول العالم الأسلامي تعيش نهضة ، حتى دول كثيرة في أفريقيا كانت تنعم بالحضارة في هذه الفترة ، وكانت الكتب والمؤلفات العلمية والإختراعات والحياة تشهد إنتعاشا في كل المجالات ...

من المعضلات التي لم يتفق عليها المجتمع البشري من لحظة وجوده على هذه الأرض حتى يومنا هذا هو طريقة الحكم ، وطريقة تداول السلطة وكيفية إدارة المجتمعات والشعوب ، منذ قرون قبل الميلاد وحتى اليوم ، من أثنا وصولا إلى روما فمصر والصين وباقي دول العالم ، بدءا من العائلة إلى العشيرة إلى تجمع العشائر إلى المدنية الأولى ، والإتفاق بين العشائر على ذلك الأقوى والأقدر الذي يوحد جهوداهم ويؤدب شاردهم ، وصولا إلى بعض الصور في إفريقيا ، حيث كانت المرأة الأكبر هي تلك التي تحكم العشيرة مع ما يرافق ذلك من صلاحيات وصور عجيبة ، إلى يومنا هذا ولا اظن اننا سنتفق ، فما زالت الديموس ( الشعوب ) لم تصل بعد الى غايتها ، ومرورا كراتوس ( السلطة ) التي تعرف التداول احيانا ولا تعرفه احيانا اخرى ، وتعرف مصالح الشعوب احيانا ، ولا تلتفت إليها أحيانا أخرى...

وهل كانت المدنية نعمة على هذه البشرية أم نقمة ، ألم يرافق نهوض الرومان وتجمعهم في نظام واحد قوي مجهز عسكريا ومدرب ، جعله قادرا على إحتلال شعوب كاملة وقارات ، ألم يرافق ذلك صور من المعاناة والعبودية وإستباحة المال والأرض والعرض ، هل كانت حتى تلك الحضارات التي نفخر بها ونتغنى بإنجازاتها خالية من العيوب وقائمة على منفعة البشرية والنهوض بالإنسان ، إم كانت قائمة على إستغلاله ونهب خياراته وتجويعه ، والحفاظ على حياته بحده الإدنى كي يكون مفيدا لهذه الحضارات ...

وهل صور الإستعمار الحديثة بعيدة عن هذه المفاهيم أم هي صياغة بصورة أخرى لتلك المفاهيم القائمة على السرقة والإستعباد والمنفعة الذاتية بعيدا عن مصالح الشعوب الأخرى ، ومع الحفاظ على صورة خفية من الحريات والمنافع التي تضمن فقط إستمرار هذه الإنظمة القمعية والنفعية ، فهي تعطي الشعوب ومن يمثلها في هذه المناطق ما يساهم في بقائها حية ولكنها لا تعطيها الحياة ولا الحرية بل تسرقهما معا ...

ما أؤمن به وأعمل على نشره في كل المنابر هو بناء الإنسان وتحريره من إتباع الجزرة أو أن يكون العصا في يد جلاده بأي صورة كان هذا الجلاد ، ولكن ما أدين به أيضا بأن نشر الإحباط والفوضى ليس في مصلحة أحد ، وأن غض الطرف عن الفرص والإنجازت الموجودة أيضا ليس في مصلحة احد ، من ينكر أن البلد فيها الكثير من الإنجازات على الأصعدة المختلفة من تعليم وصحة وبنى تحتية ، والأهم من ذلك أنه تم التركيز على الإنسان الأردني وبناءه وفق أعلى المعايير سواء من حيث التعليم أو الصحة أو الحرية الفكرية والعقدية وصولا إلى أعلى المستويات ، أو أعلى الهرم في الحرية والتعبير فقد تجاوز وتعدى ، فلا أحد ينكر بأن الإنسان الأردني تم بناءه وفق منظومة تعليمية وإجتماعية قوية وسليمة في معظم النواحي ، والفضل هنا يعود للجميع وبفضل تظافر الجهود من جميع المخلصين على تراب هذا الوطن ، على إختلاف مشاربهم وأطيافهم ، فقد كانوا جميعا جنودا في سبيل هذا الوطن وفي سبيل عزته وبنائه ، وأنا والكثير من هؤلاء الذين تعلموا ووصلوا وبنوا وكان لهم الكثير من الإنجازات على المستوى الشخصي والعام ، فقد كان التعليم حتى أعلى المستويات مجانا ، وكانت الوظيفة سهلة متاحة ، وكان التطوير وكانت الفرصة لبناء المشاريع وتطويرها متاحة وأسهل بكثير من هذه الأيام ...

نعم إن الظروف تغيرت وأصبح التعليم المدرسي والجامعي والصحة في كثير من الجوانب مدفوعة ومكلفة ، ولكن أنا أتكلم عمن سبق ، لماذا لا نقر بالفضل ، ولماذا نحرص على جلد الذات بهذه الطريقة ، نعم نريد أن نسعى للإفضل ومن المفروض أن يتحسن الوضع لا أن يؤول للأسوء كما حدث عندنا ، ولكن من يتحمل وزر هذا الأمر برأيي ليس جهة واحدة وليس شخصا واحدا بغض النظر عن مدى الصواب في قراراته أو الخطأ ...

عندما نعلم بأن إنتاجية الموظف الأردني هي 23 دقيقة من كل يومه ، وعندما وعندما وعندما ، ونحن نحاول في كل يوم فتح ذلك الباب الذي كان السبب في وصول البلد إلى هذه المرحلة ، ولكنها جملة من الأسباب والظروف والمعطيات ، ومن ينكر الجانب الدولي أو الضغوط الدولية على هذا البلد مع محدودية إمكانياته المادية والمعنوية وصعوبة الظروف المتاحة على مستوى توفر الخامات أو الإنتاجية أو التطور فهو يجب أن يفتح عينيه جيدا ...

ولا تظن بأن الدول العظمى والإستعمارية تخلت عن دورها في إستغلال الدول الأضعف فعليه أن يعيد حساباته ، فالبعض يعلم بأن من ضمن إتفاقيات الإستقلال هناك شروط إذعان للإسف على مستوى إستغلال خامات أو توفير دعم بصور مختلفة ، والتحرر من هذه الشروط يحتاج إلى جملة من الأمور المحلية والعالمية والاقتصادية والاجتماعية ، وبدون تطور البلد على المستوى العلمي والصناعي والإنسان لن يحدث هذا التحرر من شروط الإذعان ...

من السهل أن ندفع إنسان المنطقة إلى اليأس والإنتحار السياسي أو الإجتماعي وبالتالي الفوضى ، ولكن من الصعب أن تعيد بناءه مرة أخرى كي يكون منتجا منضبطا ينقاد للقوانين والإنظمة ، ما أدين به اننا بعدها سندخل في حالة من الفوضى المدمرة وليست الخلاقة كما يتوقع البعض للأسف ، وبعد أن كنا نتكلم عن تلك العشرين او الثلاثين بالمائة المفقودة سنتكلم عن ما دون الصفر ، وما يجب القيام به للوصول إلى الصفر أولا ، ومن ثم النهوض بالمجتمع وصولا إلى المجتمع المدني ، وبعد ذلك البحث عن إنجازات كانت في أكثرها موجودة من بنى تحتية ومستشفيات وتعليم وطرق ، وحتى الصورة الأقل من الأمان الإجتماعي ، ومن ظن أني أبالغ فلينظر إلى حال الدول المجاورة ...

ولك أن تتخيل صعوبة بناء وطن في ظل غياب الأمن والبنى التحتية والمستشفيات والمدارس ، والأهم هو غياب الإنسان القادر على التفاعل والبناء والمنضبط حسب بوصلة إجتماعية تستطيع التفاعل معها وفهمها ، بدل تلك المنظومات القائمة على إستعداء الأخر والإستحواذ على كل شيء والدخول في دوامة الصراعات المختلفة والمختلقة ، ومرة أخرى من ظن أني أبالغ فلينظر إلى حال الدول المجاورة ...

مع الحرية تزدهر الآراء والإجتهادات ولكن مع ذلك لا بد للعقلاء والحكماء أن يتفقوا على ما يصلح للمرحلة وما لا يصلح ، والخروج بتوصيات تساهم في أن نخرج من الحالة الراهنة ، أو على الأقل لا تزيد الوضع سواء ، وأنا لست مع قمع الحرية بأي شكل ، ولكن مع ان تكون هناك قوى مجتمعية من العقلاء والحكماء والخبراء تحدد ما لا يصلح وما يصلح للخروج من هذا المربع أو لنقل الدائرة بدل عنق الزجاجة .فقد مللنا هذا المصطلح ..

وبرأيي بقاء هذا الزخم من الأراء السلبية ، والنافثين لتلك السموم في هذا المجتمع لن يساهم في الخروج من هذه الحالة ، بل قد يساهم في العودة إلى الوراء ...