عبد الهادي راجي المجالي

صراع الثقافات

نبض البلد -
كان بودي أن یكون لي أم أنادیھا في الصباح (ماما), وأب أنادیھ (بابا).. وطاولة مستدیرة نجلس علیھا, وخادمة.. وھمس في اللیل بین ماما وبابا حول مستقبلي, فالماما مثلا تفضل أن أكمل دراستي في مدرسة داخلیة على مشارف (زیورخ), بینما بابا یفضل بیروت حتى أبقى قریبا منھم.. كان بودي أن أكون من سكان عبدون, ولدینا سائق اسمھ (ابو ..لطفي), ولدینا كلب.. وفیلا واسعة تدخلھا الشمس من كل زوایاھا كان بودي.. أن أكون فتى(دلوع), ولدي (ذنبة).. واستمع (لبوب مارلي).. ولدي خالة اسمھا (سوزي) وتحبني كثیرا وتصحبني معھا إلى النادي.. كان بودي, أن یكون بابا من محبي السیجار الكوبي الفاخر, وحین أعود من المدرسة.. أشم رائحتھ في غرف المنزل.. ولدینا وقت محدد للطعام ووقت محدد للدراسة, ووقت مخصص لبركة السباحة.. كان !بودي لكني لم أحصل على أي شيء من ھذا, لم أحصل على بابا ولا على ماما ولا على حیاة رغیدة.. كل ما حصلت علیھ في ھذا العمر الممتد ھو الشوك في دربي والحصى والخطى المتعبة, وحصلت على قلب صبیة أحبت كتاباتي.. وحصلت على زوجة تحملت سجوني والقضایا التي سھرت اللیالي بانتظار الأحكام المالیة الثقیلة فیھا, وحصلت على زینة ..ابنتي.. صبیة مثل الكرك, حین تنزل في المساء وتغسل وجھھا بماء عین سارة.. وتقول للدنیا: مساء الخیر ٌ إن أخطر شيء في العمر, ھو أن یحكم مترف الفقراء.. المترف لایعرف معنى الشوك في الدرب, لایعرف معنى الطفیلة في الروح ولا یعرف كیف تبنى معان في ثنایا القلب بالدم والشوق.. لایعرف كیف كنا ننتظر الخبز حتى یستوي (ویقحمش) فوق صفیح صوبة (الفوجیكا) ولا یعرف طعم الزیت الذي تصبھ أمك في الأذن حین تصاب .بالتھاب, وكأنھا تصب العافیة من قلبھا ولیس من یدھا ظلمنا الرئیس.. وظلمنا أنفسنا, لأن ثقافة الترف لا تحكم ثقافة الفقر والكبریاء.. ولأن التكوین الإجتماعي لمن تربى في (ھارفارد) ودرس في المدارس الداخلیة في ضواحي بیروت, حتما ستصطدم مع ثقافة (السعن) ومجتمع المخیم, والروح القرویة الجامحة لمزارع.. كان یغرس روحھ في الأرض قبل أن یغرس شتلات البندورة.. ظلمنا الرئیس .وظلمنا أنفسنا أول أمس وأنا أشاھد تصریحات الرئیس في البلد, لم أستمع لكلامھ بقدر ما لفت انتباھي نظراتھ, فالرجل على ما یبدو لایعرف ثنایا البلد جیدا لایعرف سوق الملفوف, ولا (الجورة ).. لایعرف (سوق الحمام).. ولا حتى (الكت كات).. ولا شارع طلال, ولا یعرف تفاصیل الأحلام في وجوه الفقراء, حین یعبرون.. من أمام المسجد الحسیني وھم ینتظرون .مستقبلا, لایحتاجون فیھ الى أحد.. ولا یتعبون أكثر لأجل الخبز ..مشھد الرئیس في البلد, ھو مشھد ثقافة برجوازیة مرتبكة وخائفة, وتحكم ثقافة الفقر والكبریاء والرضا .قلت لكم لقد ظلمنا الرجل... فطینتنا لیست واحدة