الإنجاز بالإرادة قبل الموارد: المنتخب الأردني لكرة القدم مثالًا

نبض البلد -

البرفسور عبد الله سرور الزعبي

في عالم تُقاس فيه النجاحات الرياضية بحجم الميزانيات، وعدد الأكاديميات، وكثافة الاستثمارات، يخرج المنتخب الأردني لكرة القدم كنصٍّ مختلف في كتاب الرياضة الإقليمية، لا بل الدولية. نصٌّ يقول بوضوح، إن الإرادة حين تتقدّم، تتراجع الأرقام، وإن الإيمان حين يترسّخ، يمكنه أن يعوّض شُحّ الموارد، وضيق الإمكانات، وقسوة المقارنات.

ما حققه النشامى لم يكن معجزة، بل نتاج فلسفة غير مكتوبة مفادها أن الإنجاز الحقيقي يبدأ من الداخل، لا من حجم الدعم.

لم يكن الطريق مفروشًا بالعشب الأخضر. منتخب الأردن دخل المنافسة من الصف الثاني، دون دوري قوي يُغذّي المنتخبات، دون قاعدة قوية تضغط باتجاه لاحتراف الكامل، ودون شركات عملاقة تدعم بالأموال. ومع ذلك، أصبح حاضرًا حين غاب أصحاب الإمكانات، ومقاتلًا حين تراجع من اعتادوا الصدارة. هنا تكمن المفارقة، بين من يملك القليل، لكن يملك إرادة النجاح، ويؤمن بضرورة تحقيق الإنجاز وبين من يملك الكثير، ولكن يجلس مطمئن.

قصة المنتخب الأردني ليست قصة مباراة فاز بها، ولا بطولة اقترب منها، بل قصة عقلية تشكّلت تحت الضغط. لاعب يدخل الملعب وهو يعرف مسبقًا أن اسمه ليس ضمن المرشحين لهدافي العالم، وأن قميصه لا يحمل ثقل تاريخ طويل من الألقاب، فيختار أن يعوّض ذلك بالانضباط، بالروح، وبالالتزام الجماعي، مشحوناً بالإرادة والايمان. هذه العقلية، التي تُدرّس في أرقى مدارس القيادة، وُلدت في ملاعب عمان، وفي غرف تبديل الملابس، لا في قاعات المؤتمرات العالمية، والمحاضرات في المؤسسات التدريبية العالمية العريقة، والمؤسسات الاكاديمية الراقية.

المنتخب الأردني قدّم درسًا في معنى الفريق. لا نجم فوق المنظومة، ولا فرد خارج السياق. حين تغيب الأسماء، تحضر الروح الجماعية. وحين لا يكون هناك لاعب منقذ، يصبح الجميع مسؤولًا. هذا التحوّل من ثقافة الفرد إلى ثقافة الفريق الجامع، هو ما جعل المنتخب صلبًا، عصيًّا على الانهيار، وقادرًا على الصمود أمام منتخبات تتفوّق عليه في كل شيء، باستثناء الإرادة بتحقيق الهدف، والايمان بانه قادر على ان يقدم المزيد، وان الأردن يستحق.

ولعل أخطر ما فعله المنتخب الأردني أنه كسر عقدة الخوف. لم يدخل المباريات ليُدافع عن الخسارة بأقل الأضرار، بل ليُنافس على الفوز. هذا التحوّل الذهني هو جوهر الإنجاز. فالهزيمة تبدأ في الرأس قبل أن تصل إلى القدمين، والنصر يولد فكرة قبل أن يصبح هدفًا. واليوم، حين تغيّرت الفكرة، تغيّر الأداء، وتغيّرت النتائج تباعًا.

النجاح الذي حققه النشامى لم يكن صدفة عابرة، بل تراكم ثقة. كل مباراة قوية، حتى وإن لم تنتهِ بانتصار، كانت تضيف لبنة في جدار الشخصية. هذا الجدار هو ما جعل المنتخب يظهر بثبات في اللحظات الحرجة، ويقف ندًّا لند أمام منتخبات تُنفق في شهر ما لا يمكن ان يُنفقه هو في سنوات.

هنا يصبح السؤال مشروعًا لدى الأردنيين، هل مشاكلنا في الاقتصاد، والاستثمار، والتعليم (الذي انفقنا عليه مئات الملايين خلال اقل عقدين، فكانت النتيجة، فقراً تعليماً يفوق 60، وفاقداً تعليماً يتجاوز 50، ومحرجات بشهادات دون المهارات)، والمياه (انفقت مئات الملايين منذ اقل من عقدين لتخفيض الفاقد المائي، والنتيجة انه ارتفع الى ان وصل اكثر من 50، واليوم نبشر بانها نخفض الى حوالي 40؟)، والطاقة ( التي اخبرونا عام 2022 باننا سننتج 200 مليون قدم مكعب من الغاز عام 2025، والنتيجة اننا ننتج اقل من 20 مليون قدم مكعب)، والامن الغذائي، وغيرها، في قلة الموارد، أم في غياب الإرادة لدى من كان من المفروض ان يملكونها لتحقيق الإنجاز على الأرض لا على الورق؟

تجربة المنتخب الأردني تتجاوز كرة القدم. هي رسالة سياسية، اجتماعية، وثقافية، واقتصادية وتعليمية بامتياز. تقول إن إدارة المؤسسات ليست محكومة بالفشل، وإن الإمكانات المحدودة ليست قدرًا نهائيًا، وإن الإدارة الذكية للعقل والروح، والتي تمتلك الجراءة، والغير باحثة عن الاسترضاءت، قد تكون أهم من الإدارة المالية.

اليوم في زمن قل فيه الإنجاز، قدّم المنتخب الأردني لكرة القدم نموذجًا للإنجاز المُستحق.

هذا لا يعني تمجيد المعاناة أو تبرير شحّ الدعم، بل العكس تمامًا. فالمنتخب الأردني، بما حققه رغم محدودية الإمكانات، يقدّم حجة أخلاقية قوية لمضاعفة الاستثمار فيه. لأنه أثبت أنه حين يُعطى القليل يُنجز، فكيف سيكون حاله لو أُعطي ما يستحق؟ الإنجاز بالإرادة لا يُلغي الحاجة إلى الموارد، لكنه يفضح سوء استخدامها حين تتوفر بلا نتيجة.

في النهاية، لم يعد المنتخب الأردني مجرد فريق كرة قدم، بل حالة اردنية تدرس. حالة تقول إن النجاح ليس حكرًا على من يملكون، بل على من يريدون ويؤمنون بالنجاح. وتقول للمؤسسات إن الرهان على الإنسان أذكى أنواع الرهانات. وتقول للوطن إن الإرادة، حين تُحسن قيادتها، يمكن أن تصنع ما تعجز عنه الثروات، لا بل هي من تصنع الثروات (سنغافورة، تايوان، كوريا، فيتنام، استونيا، رواندا، بنغلادش، وغيرها الكثير)، ولكن لا يمكن ان يكون ذلك لدى الإدارة في وجود بعض أصحاب الايادي المرتجفة، وأصحاب نظرية الإدارة بالتسكين، والمهادنة، والباحثين عن الشعبويات على حساب مصلحة المؤسسات والوطن، وهو ما يحذر منه الملك باستمرار.

هكذا أصبح فريق النشامى، أكثر من لاعبين في الملعب، بل فكرة تستخدم القدمين، لتكون دليلًا حيًّا على أن الإنجاز الحقيقي يبدأ بالإرادة.