نبض البلد -
حاتم النعيمات
تشي التطورات المتلاحقة في طهران بأن البلد يدخل مرحلة فرز داخلي عميق، فالفجوة بين المحافظين والإصلاحيين أصبحت واضحة، وتحول المشهد إلى انقسام حول مشروع إيران الذي بدأ عام 1979، والسؤال في هذا السياق واضح: هل تبقى إيران أسيرة إرث "تصدير الثورة” رغم كلفته السياسية والعسكرية، أم تنتقل إلى منطق الدولة الطبيعية التي تبحث عن مصالحها لا عن شبكة نفوذ في الإقليم؟
المحافظون، وهم الذي يسيطرون على الحرس الثوري والأجهزة الأمنية، يعتبرون أي انفتاح سياسي أو اقتصادي خطوة تقوّض مبادىء الثورة، في المقابل يقف التيار الإصلاحي ليقول إن إيران دفعت ثمناً باهظاً خلال العقود الماضية، ولم تعد قادرة على مواصلة نهج المواجهة الدائمة، وأن الخروج إلى العالم هو السبيل الوحيد لاستعادة الدولة لعافيتها.
هذا السجال الداخلي يتفجّر في لحظة حسّاسة؛ فاحتمالات عودة الاشتباك المباشر مع "إسرائيل" قائمة خصوصًا بعد تسريبات عن استعادة إيران لعافيتها العسكرية بعد الحرب الأخيرة، ودخول نتنياهو في الزاوية الضيقة بطلبه العفو من رئيس "إسرائيل" بعد أن لمّح أن هناك تغيرات كبيرة ستكون في الشرق الأوسط، يضاف إلى ذلك كله أن الوضع الاقتصادي يزداد سوءاً بفعل العقوبات، وفقدان طهران جانباً من أدواتها التقليدية في الإقليم بعد سقوط النظام السوري وتدمير جزء كبير من قدرات حزب الله.
المحافظون يتبنون شعار "اقتصاد المقاومة”، بما يعني عملياً توظيف أذرع إيران في المنطقة لضمان موارد خارجية تقلل من ضغط العقوبات. أما الإصلاحيون، فيرون أن الطريق الواقعي يمرّ عبر القطاعات الطبيعية للاقتصاد الإيراني كالنفط والغاز والتجارة، وذلك بإنهاء عزلة تتآكل معها قدرات طهران بشكل حاد. وبين هذين المعسكرين، يعيش الإيرانيون حالة من الإنهاك؛ فالأسعار تتصاعد مع بطالة وتضخم يجتاحان المدن، يضاف إلى ذلك أزمة مياه دعت الرئيس للحديث صراحة عن نقل سكان العاصمة.
أما على مستوى السلطة العليا (المرشد ومجلس تشخيص مصلحة النظام)، لا تبدو الصورة أفضل؛ فالتقارير تتحدث عن تراجع ملحوظ في شعبية المرشد الأعلى، خصوصاً بعد أن أصبح صوت الإصلاحيين ممثلاً بشكل واضح بالرئيس ووزير خارجيته، لذلك رأينا الصدام بين "منطق الثورة” و”منطق الدولة” يخرج إلى العلن، وتزداد حدّته من خلال الحديث عن عنوان حساس وهو التوريث داخل نظام يقوم أصلاً على شرعية ثورية، جل ذلك خلق قلقاً داخل المؤسسة الدينية والأمنية قد يؤدي في حالة التراكم إلى اهتزاز الأساس الذي قامت عليه إيران.
إدن الفجوة تتعمّق بين الناس والدولة، فالقمع الذي تلا احتجاجات السنوات الماضية، وإغلاق الفضاء الإلكتروني، وانسداد أفق الإصلاح، كلها صنعت جيلاً جديداً ينظر إلى السلطة بعين العداء. ورغم أن النظام السياسي ما يزال صلبًا بفعل القبضة الأمنية، لكنه في المقابل يعيش داخلياً حالة تصلّب لا استقرار.
حتى علاقات طهران مع حلفائها التقليديين باتت تختبر من جديد؛ وظهر ذلك أثناء الهجوم الإسرائيلي–الأميركي في حزيران الماضي (حرب الـ12 يوماً)، حيث اكتفت موسكو وبكين بالتصريحات، وظهرت إيران وهي تواجه وحدها اختراقاً عسكرياً واستخبارياً غير مسبوق، هذه اللحظة دفعت كثيرين في الداخل للتساؤل عن قيمة التحالفات التي لا تحمي لحظة الخطر الوجودي.
الخلاصة أن ما يجري في إيران له بعد تراكمي بشكل عام، وبعد يخص عدم القدرة على تقدير الموقف الدولي من قبل السلطة الحاكمة، فالخيارات أصبحت شحيحة، فإما أن تعود السياسة الخارجية إلى عقلانيتها، فيسهل ترميم الثقة داخلياً، أو يستمر الانقسام ويتحوّل الاحتقان إلى أزمة مفتوحة تحت ضغط التهديدات الإسرائيلية والأميركية والعقوبات الأوروبية. إيران تقف اليوم على عتبة مراجعة مؤجّلة طويلاً، لكن السؤال الذي سيحكم المرحلة المقبلة هو التالي: هل يمرّ التغيير بسلاسة، أم سيترك أثرًا سيئًا على إيران والمنطقة كما حدث بعد غزو العراق؟