المهندس سامر حيدر المجالي ورواية "المهندس"

نبض البلد -
.

بقلم: القاصة / حنان الباشا
.
«المهندس» رواية للكاتب سامر حيدر المجالي، صادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون عام 2023.
النص الروائي متصل بالكاتب وكأنه هو الشخصية الرئيسة، كونه مهندساً، وقد تنقّل بين الأردن ودبي ومصر. سكب الكاتب في الرواية كل خبراته ورؤاه، وتلمس حبّه للهندسة الذي بان بين السطور منذ نعومة أظفاره، حتى تكاد لا تميز بين المؤلف وبطل الرواية فراس، الذي نشأ وهو يحمل شغفاً بالمباني وعشقاً لعمارة المدينة التي وقع في هواها. ذكر الكاتب في فصول عديدة كيف كانت عمّان زمان النشوء جميلة حلوة بأهلها، مفصّلاً في وصف أحيائها وشوارعها مقدما صورا من ماضيها العريق.

أشار الكاتب في سرده إلى العديد من العادات والتقاليد في تسلسل واضح للزمان والمكان. وكل من سكن عمّان يستطيع أن يسير معه، وخاصة من عاصر فترة الثمانينيات والتسعينيات، فيما شهدته المدينة من تقلبات دفعت إلى تغيّر الناس فجأة واختلاف أحوالهم.

الزمان والمكان واضحان جداً في الرواية، حتى في تنقل الراوي إلى مدينة دبي، التي تمكن الكاتب من وصفها بوضوح وإتقان، كما فعل مع الشارقة، والقاهرة. تعددت الأمكنة، وجاء توثيق الزمان بأحداث متسلسلة ودقيقة.

«المهندس» رواية تحمل طموحات الشباب العربي: الاغتراب بحثاً عن حياة أفضل، واقتناص الفرص لرفع مستوى المعيشة وتأمين ما يستطيع المغترب توفيره لنفسه وعائلته. والمجازفة قد ترفع أحياناً، وقد تقذف أحياناً أخرى في قاع مظلم. الضغوط الكبيرة قد تسحق إلى حدّ تفقد المرء معه رباطة جأشه، فيحتاج إلى العلاج النفسي إن استفحلت الحالة، بينما يرفض البعض الاعتراف ويخجل. ونعلم جميعاً ما يترتب على ذلك من اعتماد على الأدوية وصعوبة التخلص منها، إضافة إلى صعوبة تشخيص الحالة إن كانت مرضاً أو أزمة عابرة يعود منها المرء بعد زوال أسبابها.

بعض مؤشرات مرض المهندس تشير إلى إصابته بالانفصام الذهني؛ فالأصوات التي كان يسمعها والرؤى الغريبة التي بدت وكأنه يتنبأ بالقادم ليست رؤى بقدر ما هي أعراض ينتجها المرض، إن ثبت ذلك طبياً. وتردده على المسجد ومصاحبته للإمام المرشد الأقرب للروحاني: الشيخ خالد، ربما دفعاه إلى التصوف، وهو يتأمل وينغلق على ذاته في مونولوج داخلي عميق يربط فيه المادة بالروح، ويعيد كل شؤون حياته إلى الهندسة. وكان للشيخ خالد أثر طيب عليه، يرفع من معنوياته وينير له الطريق. ومما قاله له:
«هل تعلم أن واحداً من كبار الصالحين كان يقول: لو كانت للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني. فلا تُحمِّل نفسك فوق طاقتها ولا تستهِن بعظيم عفو الله» (ص 92).

البعض تنهكه ظروفه فيلجأ إلى الانتحار أو الهروب من مسؤوليات الحياة، لكن الكاتب ترك النهاية مفتوحة للقارئ، ووضع بعض الإشارات: إن راق لك الأخذ بالرؤية التي ظهرت للمهندس فراس في أشد لحظات ذهوله على الحافة ـ مجيء الصغير زيد ـ فهذا يعني أن مستقبلاً واعداً ينتظره لو صبر. أو أن النهاية هي الانتحار، وانتقاله بسيارة الإسعاف كما رأى نفسه ميتاً أكثر من مرة.

وإن كنت سأحلل شخصية المهندس فراس، فهو الذي عاش في كنف والدين محبين، وحظي بكل الدلال الممكن، ولم يكبر تحت السطوة أو التهميش. كان سوياً، ذكياً، طموحاً، وله عائلة كبيرة مترابطة من الأعمام والأخوال، وجدّ طيب وأصيل، وكذلك الجيران الذين كانوا أشبه بالأهل. فَلِمَ كان عليه أن يغترب؟
ربما كان طموحه سبباً في بعض العثرات. فالطموح جميل، لكن الفرح الشديد والغرور قد يتملكان الإنسان حين تتوالى عليه النعم، فيعلو ويرغب بالمزيد، ويندفع كالركض في الماراثون، ويلتقي بمن يبهرونه، فيظن أنهم سيأخذون بيده، لكنه يُفتن إن لم يعتصم. وقد بدا ذلك في عبثه مع المدعوة نجوى، التي حرّكت عنده شيئاً من الزهو في فترة الرخاء والنجاح التي بدأت في دبي.
«كانت في الأربعين من عمرها، ثمرة ناضجة يفوح أريجها في أجوائي، فتتوثب حواسي كلها راغبة في التهامها على الفور» (ص 70).
هذه النجوى التي لعنها وشتمها فيما بعد، بعد أن ضللته.

رغم ذكائه وتخطيطه، تعثر فراس. وكما يُقال: لكل حصان كبوة. غير أنه لم يتعثر فقط، بل كسر رقبته. خسر حصنه المنيع: الزوجة الهنية الحلوة اللبقة.
«المهم أن تكون دائماً بخير» قالتها راية زوجة فراس. أي رجل محظوظ كان!
هذا رأس ماله، كل ما اجتهد لأجله. لكنه آثر امرأة اشتهَاها رغم أنه كان محصناً آمناً في بيته.
لماذا يبحث البعض عمّا يمتلكونه أصلاً؟
الثمن باهظ. وعندما ضاق ذرعاً بعزوف زوجته عنه لم يكن محقاً. ورغم حزنه ودماره وسوء أحواله، ورغم أن الزمن لفظه خارج دائرة النجاح والسعادة، لم أشفق عليه لأنه جنى ما يستحق. وعندما تسعى للتغير السريع عليك أن تنتبه لمن رافقك منذ البداية وآمن بك، فحين تسقط ستجد يدهم ممدودة كالعادة، وليس ذلك ذنب السقوط إلا على من سقط.

هناك ملاحظة لم أفهمها: كيف طرح الكاتب فكرة متأخرة عن الشخصية التي دمرت جهد المهندس فراس وتركته في ضياع؟
السيد محمد عزام، بائع مشاريع وهمية لا يراها الناس إلا على شاشات الإعلام، المدّعي المتزلّف، الذي يتحدث في كل شيء ويظهر في التلفزة منظِّراً ومحَوِّراً.
كيف سكتت والدة المهندس فراس عن هذه الشخصية المشكوك بأمرها؟ وكيف آثرت الصمت رغم أنها وصفته بالحاقد لرفضها له عريساً في أول حياتها؟
ألم يكن حرياً بها أن تخبره منذ البداية؟

في النهاية، كل إنسان معرض لانقلاب حياته رأساً على عقب. لا ندري كم قد يكون سوء الحظ قاسياً، كمن يغرق ولا يعرف السباحة. من المحزن أن يتعثر شخص طموح وذكي وتنهار حياته ومن حوله معه، ليصل إلى البكاء ويصعب انتشاله. هو لا يستحق أن تُختم حياته بوصمة الفشل، ومحاولاته العقيمة للنجاة، وصعوبة التواصل، ووضع القدر في طريقه أناساً ينخرهم الفساد مثل المهندس حسان المرتشي، الذي بسوء إدارته نكس رايات المهندس فراس، صاحب الخبرة والإبداع. وكيف للإنسان أن يحيد ويتجاهل فقط ليستمر لحاجته الماسة؟

الرواية طرحت هموماً مجتمعية عديدة. البعض يهرب، ويترك لغيره حملاً لا يقدر عليه. هؤلاء أصحاب الثروة والمجد، بينما فراس، المهندس المجتهد، فقد فرصته وزمام أمره، وحتى آخر سطر بقي تائهاً مهموماً مديناً، رغم أنه لم يفقد إيمانه وثقته بالله، ورغم كل الأسئلة التي حاصرته: لماذا حدث كل ذلك؟
وماذا لو ظل في بلده، وأكمل عمله مع المهندس المخلص سلطان الذي درّبه وأكسبه خبرات عدة، وخلصه من رعبه من المرتفعات، وسانده؟ هل كان سيؤول حاله إلى هذه الحال؟ هل كان سيغادر مدينة جميلة زاخرة بالفرص كدبي، احتضنته أولاً ثم أطاحت به؟

هل نلوم الزمن أم الأماكن أم أنفسنا؟
ومع النهاية المفتوحة التي تركها الكاتب سامر المجالي، أرجو أن يجد المهندس فراس حلاً لمصائبه، وأن يُرزق بالصغير زيد، وأن يسعد ثانية، وإن بدا ذلك أشبه بالمعجزة.