قراءة في خطاب العرش السامي: الأردن بين التحديات والفرص

نبض البلد -

د. خالد العاص

لم يكن خطاب العرش السامي في افتتاح الدورة العادية الثانية مجرد استهلال لدورة نيابية جديدة، بل كان لحظة مواجهة صريحة بين الدولة وذاتها. لحظة نادرة يجهر فيها الملك بقلقه أمام شعبه، لا ليبث الخوف، بل ليؤكد أن القيادة الواعية هي التي تُقلقها التحديات ولا تُربكها. ففي كلمات معدودة، رسم جلالة الملك عبدالله الثاني معالم مرحلة دقيقة يعيشها الأردن؛ مرحلة لم تعد فيها الشعارات تفي بالغرض، بل بات المطلوب فعلًا ووعيًا ومسؤولية مشتركة.

منذ الجملة الافتتاحية، يستحضر الخطاب روح النشأة الأولى للدولة: وطن وُلد في قلب الأزمات، لكنه اختار الإرادة طريقًا، لا الانكسار. هذه العبارة ليست مجرد استذكار للتاريخ، بل تأكيد على أن الأردن دولةً ونظامًا وشعبًا بُني على فلسفة الصمود الذكي لا المقاومة الغاضبة، وعلى الإيمان العميق بقدرة الأردنيين على تحويل الشدائد إلى فرص للنهوض.

الملك في خطابه لا يتحدث من برجٍ معزول، بل من تماسٍ مباشر مع وجدان الناس. حين يقول: "نعم يقلق الملك، لكنه لا يخاف إلا الله، ولا يهاب شيئًا وفي ظهره أردني"، فهو يعبّر عن صيغة نادرة من القيادة السياسية في المنطقة؛ قيادة تجعل من "القلق فضيلة" ومن الثقة بالشعب درعًا سياسيًا ومعنويًا. هنا لا يتحدث رأس الدولة بل الأب، ولا يخاطب السياسيين فقط بل الضمير الجمعي للأردنيين.

وفي محور الإصلاح السياسي والاقتصادي، بدا الخطاب واضحًا في نبرته الحازمة: لا وقت للترف الإداري، ولا مجال للتراخي. الإصلاح، كما ورد في الخطاب، لم يعد ترفًا فكريًا أو وعدًا انتخابيًا، بل أصبح شرط بقاء واستمرار. الملك وضع مجلس الأمة أمام مسؤولياته المباشرة: متابعة تنفيذ مسارات التحديث السياسي وتعزيز العمل الحزبي البرلماني، لا بوصفه ديكورًا ديمقراطيًا، بل كأداة لتجذير المشاركة والمساءلة.

أما في الجانب الاقتصادي، فقد شدد الخطاب على أن "رؤية التحديث الاقتصادي" ليست وثيقة نظرية، بل خريطة طريق ملزمة. التركيز على المشاريع الكبرى، وجذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل نوعية، كلها محاور تأتي في سياق إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وهي الثقة التي تآكلت جزئيًا تحت ضغط الظروف المعيشية وغياب الأثر الملموس للإصلاحات السابقة.

وجاء الجانب التنموي في الخطاب الملكي ليؤكد أن بناء الدولة الحديثة يبدأ من التعليم والصحة والنقل، بوصفها أعمدة الحياة اليومية للمواطن. فالإصلاح التعليمي لم يعد ترفًا، بل ضرورة لإنتاج جيلٍ مبدع يواكب متطلبات العصر. أما القطاع الصحي، فالإشارة إليه تعكس إدراك القيادة لاتساع فجوة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ما يجعل تحسين الخدمات وإعلاء كرامة الإنسان واجبًا وطنيًا. وفي المقابل، يمثل تحديث النقل ركيزة اقتصادية واجتماعية تعيد الحيوية لحركة الناس والاقتصاد معًا.

وفي الجانب الوطني، جاءت إشادة الملك بالجيش العربي المصطفوي تأكيدًا أن قوة الأردن لا تقوم على موارده فقط، بل على صلابة مؤسساته الأمنية والعسكرية التي حفظت الوطن وسط العواصف الإقليمية. وحين قال الملك: "هنا رجال مصنع الحسين"، كان يؤكد أن الأجيال الجديدة تحمل راية الإرث الهاشمي في التضحية والانتماء.

أما في الشق الإقليمي، فقد حمل الخطاب بُعدًا إنسانيًا وسياسيًا متماسكًا تجاه القضية الفلسطينية. حين يقول الملك إن الأردن "سيبقى إلى جانب أهلنا في غزة بكل إمكانياته، وقفة الأخ مع أخيه"، فهو لا يصوغ موقفًا عاطفيًا بقدر ما يؤكد على ثبات الدور الأردني التاريخي في الدفاع عن فلسطين والقدس، من موقع المسؤولية الهاشمية لا من باب الشعارات. الخطاب هنا يتجاوز الإدانة اللفظية ليعيد تثبيت المعادلة الأردنية الثابتة: دعم الصمود الفلسطيني، ورفض الانتهاكات في الضفة الغربية، والتمسك بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية.

وختامًا، خطاب العرش السامي ليس مجرد افتتاح لدورة برلمانية، بل قراءة استراتيجية لموقع الأردن في زمن مضطرب. إنه خطاب يحمل طابع "القلق النبيل" لقائد يدرك حساسية المرحلة، لكنه يستمد قوته من صلابة الأردنيين الذين وصفهم بأنهم "درع الوطن وسياجه".وفي زمن تتلاطم فيه الأزمات من غزة إلى الاقتصاد العالمي، يبقى الأردن، كما وصفه الملك، وطنًا لا يعرف الاستسلام، بل يعرف طريقه دائمًا عبر الإيمان، الوحدة، والعمل.