نبض البلد - ولاء فخري العطابي
مُنذ زمنٍ مضى، كانت كلمة واحدة قادرة على لملمة ما تفرّق وابتسامة صادقة تُعيد ما انكسر، لم نكن بحاجة إلى كثيرٍ من التبريرات أو التفسيرات، لأن النوايا كانت أوضح من كل الكلمات، أما اليوم فأصبحت المعجزات أبسط من إصلاح شرخٍ بسيط بين قلبين، وصار البعد قرارًا أسرع من قول "خلينا نحكي”.
لقد تبدّلت ملامح العلاقات الإنسانية في زمنٍ لم يترك للبساطة مكانًا، وأصبح الكبرياء يحكم، والهواتف تتكلم بدل القلوب، والرسائل المؤجلة تُدفن في صندوق "المسودات” كما تُدفن المودّة في زوايا الذاكرة، لم نعد نعتذر كما كنّا، ولم نعد نسامح كما ينبغي، كأننا نتدرّب يومًا بعد يوم على خسارة الناس بصمتٍ بارد.
ليس كل خلاف يعني نهاية ولا كل صمت هو نسيان،
لكننا بتنا نُفسّر الصمت ضعفًا، والابتعاد تجاهلًا، والاعتذار تنازلًا، وهذه المفاهيم التي تسلّلت إلينا بهدوء، سرقت منا أجمل ما في العلاقات ألا وهي الدفء الإنساني.
قبل أيام، روت لي صديقة موقفًا بسيطًا، وقالت: "اختلفت مع صديقة لي منذ سنوات، على سوء فهم بسيط، ولم تتصل هي، فانتظرتُها، ومرّت الأيام حتى صار الانتظار عادة، ثم صار البُعد واقعًا، واليوم، حين أراها صدفة، أبتسم وكأن شيئًا لم يكن، لكن في داخلي فراغ كبير.”
كم من "صديقة” مثلها اليوم؟! وكم من علاقة توقفت عند لحظة عتابٍ لم تُقال؟! وكم من أخٍ ابتعد عن أخيه لأن الكبرياء غلب المحبة؟! وكم من أمٍ تنتظر اتصالًا من ابنٍ شغلته الحياة عنها؟! وكم من قلبٍ يحلم بفرصةٍ ثانية لكن الوقت مضى؟! وكم من مشاعر طاهرة ذبلت لأنها لم تجد من يسقيها بكلمة صادقة؟! وكم وكم وكم ؟!.
"صدقوني" الناس لم يتغيّروا فجأة، لكن سرعة الحياة جعلت مشاعرنا تختصر الطريق إلى النهاية، أصبحنا نؤجّل الصلح حتى يفوت الوقت، ونكابر حتى نفقد أغلى من نحب، ونضحك وفي داخلنا وجع لا يُحتمل، ونساير من لا نطيق كي لا نخسر المزيد، ونصمت كي لا نُفهم خطأ، ونبتعد ونحن في الحقيقة نتمنى البقاء، ونقسو كي لا نظهر ضعفنا، ونخسر ونحن نُقنع أنفسنا أننا بخير، ونتظاهر بالنسيان بينما كل التفاصيل ما زالت تؤلمنا. لم نعد نُصغي، ولا نحاول أن نفهم الآخر، وكأننا نسينا أن "العلاقات” تحتاج إلى صيانة مثل البيوت، لا إلى هدم كلما ضاقت المساحة.
ربما ما نحتاجه اليوم ليس معجزة، بل عودة إلى البساطة، أن نتذكّر أن الاعتذار لا يُنقص من كرامتنا، وأن المبادرة ليست ضعفًا، وأن الحديث وجهًا لوجه أقوى من ألف رسالة مكتوبة على عَجَل، أن نمنح الآخرين فرصة للتوضيح قبل أن نحكم،
وأن نُعيد ترتيب أولوياتنا كما كانت: "الإنسان قبل الموقف والمشاعر قبل العناد” نعم فنحن نحتاج أن نُعيد للقلوب لغتها القديمة "لغة التفاهم والصدق والإنسانيّة".
ولعلّ أجمل ما يمكن أن نبدأ به هو أن نكسر صمتنا، أن نقول لمن ابتعدنا عنهم دون سبب واضح: "اشتقتلك، خلينا نفتح صفحة جديدة" ؛ فالحياة أقصر من أن نقضيها في صمتٍ يُبعدنا، وكلمة واحدة صادقة قد تُعيد سنينًا من البُعد، وتُرمّم ما ظننّاه انتهى إلى الأبد.