نبض البلد - الاعتداءات على الدبلوماسية الأردنية: تحليل الدوافع وتثبيت الموقف الهاشمي الراسخ
د. دانا خليل الشلول
تتجاوز الاعتداءات الأخيرة على البعثات الدبلوماسية الأردنية في الخارج كونها مجرد حوادث أمنية معزولة، حيث إنها تجسيد مرئي لمحاولات تشويه دور الأردن المبدئي والثابت، ومحاولة لزعزعة استقراره الذي يمثل صمام أمان للمنطقة بأسرها؛ فهذا المشهد المعقد يكشف عن عدةِ أبعادٍ مترابطة:
دور الأردن وحقيقة السيادة الكاملة:
لطالما عُرف الأردن بقدرته على إدارة علاقاته الدولية بذكاء ودبلوماسية، مما منحه ثقة واحترام القوى العالمية، فهذا الموقع المتميز لم يكن يوماً نتيجة "وكالة"، بل هو نتاج سيادة وطنية كاملة وإدارة حكيمة للمصالح العليا للمملكة، حيث إنَّ هذا التشكيك في سيادة الأردن هو محاولة يائسة للتقليل من دوره الريادي وقدرته على اتخاذ قراراته المستقلة، وهو أمر يُكذّبه التاريخ ويثبته الواقع، فالأردن، بقيادته الهاشمية، يمتلك وحده الحق في تحديد سياسته الخارجية، وجميع علاقاته مبنية على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
الحق المشروع والاستراتيجية البراغماتية:
في الوعي الشعبي العربي، يُمثل الأردن تاريخيّاً خط الدفاع الأول عن القضية الفلسطينية والمقدسات. هذا الدور الأبوي، الذي لطالما تغنى به الخطاب الرسمي، هو ما يُشكّل توقعات الشارع، لكن في المقابل، يضطر الأردن إلى انتهاج سياسات خارجية براغماتية معقدة في ظل بيئة إقليمية مضطربة، هنا تكمن نقطة الصدام؛ ففي الوقت الذي يتوقع فيه المواطن العربي والأردني موقفاً حاداً و"غير مُتساهل"، تفرض حسابات المصالح الوطنية والدولية على الأردن خطاباً متزناً، حيث أنَّ هذه الاعتداءات على البعثات الدبلوماسية هي رد فعل عنيف على هذا الفارق بين التوقع والواقع.
الهوية الأردنية والموقف الفلسطيني:
بالنسبة للأردنيين، القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية خارجية، بل هي جزء أصيل من النسيج الاجتماعي والسياسي للمملكة، فضلاً عن أنَّ أي توتر في هذا الملف ينعكس مباشرة على الداخل الأردني، حيث إنَّ هذه الاعتداءات الخارجية، وإن كانت موجهة ضد "الدولة الأردنية"، إلا أنها تضرب على وتر حساس لدى الأردنيين أنفسهم، فالأردن اليوم يواجه تحدياً كبيراً: كيف يحافظ على دوره التاريخي دون أن ينجر إلى صراعات لا تخدم مصالحه الوطنية؟ وكيف يوازن بين دعم القضية الفلسطينية والحفاظ على استقراره الداخلي الذي هو أساس كل شيء؟
الأردن في مرمى النيران الدائم
ولماذا دائماً الأردن في مرمى هذه الاتهامات والاعتداءات؟
يمكن تحليل هذا الأمر من عدة جوانب: أولاً، "القرب الجغرافي": الأردن هو الأقرب جغرافياً ووجدانياً لفلسطين، مما يجعله الواجهة الطبيعية لأي غضب شعبي أو إقليمي، ويأتي بالدرجة الثانية عامل "الاستقرار النسبي": بخلاف دول أخرى تعيش صراعات داخلية، حيث يمتلك الأردن استقراراً نسبياً، مما يجعله هدفاً سهلاً لمن يريد توجيه رسالة أو إثارة الفوضى دون الخشية من رد فعل عسكري واسع النطاق نظراً للاستقرار والأمن الذي ينعم به الأردن.كما يمكن تحديد السبب الثالث وفقاً لعامل "الغموض السياسي"؛ فبالرغم من وضوح مواقف الأردن المُعلنة والراسخة، إلا أن تعقيد علاقاته الدولية قد يُفهم على أنه "ازدواجية"، مما يسهل على بعض الجهات اتهامه بالتقاعس أو التواطؤ، إلا أنَّ هذه الاتهامات مردودةٌ جملةً وتفصيلاً، فالأردن بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني وسمو ولي عهده يثبت كل يومٍ أنَّ سياسته الخارجية تنطلق من مبادئ راسخة وثابتة لا تقبل التشكيك.
أسباب التشكيك ورواية الأردن الثابتة
هنا تكمن النقطة الأكثر حساسية؛ فرواية الأردن الرسمية، رغم ثباتها ووضوحها، غالباً ما تُقابل بالتشكيك، فيما تستغل بعض القوى الإقليمية والدولية هذا الفراغ لتغذية حملات إعلاميّة ممنهجة، تستهدف مصداقية الأردن ودوره، وتعتمد على "التأويل" و"التحريض" لإظهار الأردن بمظهر المتخاذل، لكن هذه الادعاءات باطلة، لأن الأردن، بقيادته الهاشمية الحكيمة، بعيد كل البعد عن التقاعس أو التواطؤ، ويُثبت كل يومٍ صدق موقفه بالعمل الميداني والسياسي الفاعل.
أرقام تتحدث عن دور الأردن في دعم القضيّة الفلسطينيّة:
إنَّ الحديث عن الدور الأردني لا يقتصر على المواقف السياسية والخطابات الدبلوماسية، بل يمتد ليشمل جهوداً عملية وإنسانية ضخمة تترجم التزام المملكة بالأرقام، فقد نفّذت القوات المسلحة الأردنية أكثر من (130) إنزالاً جويّاً مباشراً على قطاع غزة، بالإضافة إلى ما يزيد عن (270) إنزالاً جويّاً مشتركاً مع دول شقيقة وصديقة.
كما لعبت المستشفيات الميدانية الأردنية دوراً حيوياً في تقديم الرعاية الطبية، حيث استقبلت أكثر من (494) ألف مراجع وأجرت أكثر من (2950) عملية جراحيّة تتنوّع بين كبرى وصغرى وفقاً لما تستدعي الحاجة، فيما لم تقتصر جهود الإغاثة على هذه الإنزالات الجويّة والإغاثات الطبيّة؛ بل شملت أيضاً إدخال آلاف الشاحنات المحملة بعشرات آلاف الأطنان من المساعدات عبر المعابر البرية، مما يؤكد أنَّ الأردن هو الشريان الرئيسي للإغاثة الإنسانية في المنطقة، وأن دوره ليس مجرد كلام، بل هو عمل ملموس يجسده كل طبيب وممرض وجندي أردني.
وختاماً، يبقى التنديد بهذه الاعتداءات ضرورة لا غنى عنها، فهي لا تخدم قضية عادلة، بل تضعف مواقف الدول الداعمة لها، وتخدم أجندات خفية تسعى إلى خلق الفوضى وزعزعة الاستقرار في المنطقة، فضلاً عن أنَّ استهداف البعثات الدبلوماسية هو عمل مرفوض ومدان، يضر بسمعة القضية التي يدّعي من يقومون به الدفاع عنها، ويُظهر أن من وراء هذه الأفعال لا يدركون أن موقف الأردن تجاه فلسطين ثابت وراسخ كالجبال، لا يتزعزع بالاتهامات أو الاعتداءات. ولعلّ أهم ما يميز موقف الأردن هو قيادته الهاشمية الحكيمة، التي تجسد الإرادة الصلبة والضمير الحي للأمة، فمنذ عهد الشريف الحسين بن علي، وحتى عهد جلالة الملك عبدالله الثاني، وسمو ولي عهده الأمير الحسين، لم تدخر القيادة الهاشمية جهداً في الدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وحماية الشعب الفلسطيني، فهذا الدور التاريخي، الذي تحمّل مسؤولياته الجِّسام، يمثل حجر الزاوية في السياسة الأردنية، ومصدر فخر واعتزاز لكل أردني وعربي.
وأخيراً يجب أن تتم محاسبة أي شخص قام بهذا التصرف بأشد العقوبات، مع التأكيد على أهميّة تحديد هوية كل من شارك في هذه الاعتداءات بشكلٍ مباشرٍ أو حتى غير مباشر ليكون عبرةً لمن اعتبر.