نبض البلد -
بقلم: المحامية سونيا المعايطة
مع مطلع عام 2025، أُقرَّ في الأردن تعديل قانوني جذري يتمثل في منع حبس المدين، ودخل هذا التعديل حيّز التنفيذ فعليًا في شهر حزيران 2025. جاء هذا التعديل تحت مظلة إنسانية وحقوقية، تسعى لحماية الإنسان من قيود الحبس بسبب الديون المدنية، باعتبار أن الحبس لا يُنتج المال ولا يعالج جذور المشكلة. إلا أن غياب البدائل القانونية الرادعة والفعالة لهذا المنع أوقع المنظومة الحقوقية والاقتصادية في مأزق بالغ التعقيد، لا سيما في بيئة تعتمد بشكل كبير على الائتمان والتعاملات الآجلة.
أولاً: تآكل قوة التنفيذ
قبل هذا التعديل، كان حبس المدين يشكّل وسيلة ضغط قانونية لتسوية الالتزامات، وأداة فعالة لحث المدين على التسديد أو الوصول إلى تسويات عادلة. أما اليوم، فإن منع الحبس بدون استحداث أدوات ردع بديلة، أفرغ الكثير من الأحكام القضائية من مضمونها، وجعل الدائن – سواء كان بنكًا أو مؤسسة تمويل أو تاجرًا – في موقع ضعيف أمام مدين قد يتعمد المماطلة والتهرب، مستندًا إلى الحصانة التي منحه إياها القانون.
والنتيجة؟ ضعف عام في فعالية التنفيذ، واهتزاز ثقة الدائنين بمبدأ الالتزام، مما انعكس سلبًا على حركة التمويل والتجارة في البلاد.
ثانيًا: انفجار محتمل في البيئة الجرمية
من زاوية أخرى، فإن غياب الردع الرسمي قد يولّد ردعًا غير مشروع. فقد بدأنا نلحظ في الميدان أن بعض الدائنين، نتيجة لشعورهم بالعجز القانوني، يلجأون لوسائل بديلة لتحصيل حقوقهم، منها الضغط الاجتماعي، والوساطات العشائرية، بل وحتى التهديد والاعتداء أحيانًا. هذه الممارسات، وإن بدت فردية، تحمل خطرًا حقيقيًا في أن تتحول إلى نمط متكرر، تمهّد لتشكّل بيئة جرمية غير رسمية، حيث تظهر "مافيات تحصيل" وبلطجية تعمل خارج إطار القانون، مما يهدد بسيادة الدولة ويزعزع استقرار المجتمع.
إن أخطر ما في الأمر أن هذا التحول يحصل بهدوء، وبلا ضجيج تشريعي أو قضائي يوقفه، مما يجعله أكثر رسوخًا وأصعب على المعالجة في المستقبل.
ثالثًا: آثار اقتصادية خطيرة تنذر بالشلل
منع حبس المدين أثّر أيضًا على عجلة الاقتصاد الأردني التي بدأت تتباطأ بوضوح. لقد أصبح التعامل بالدين أو الكمبيالات أو الشيكات المؤجلة مخاطرة عالية لا يقبلها التجار بسهولة، مما دفع السوق نحو التعامل النقدي فقط (كاش). هذا التحول قلّص من حجم السيولة المتداولة، وأضعف مرونة السوق، وأوقف الكثير من العمليات التجارية التي كانت تقوم على الثقة والتسهيلات.
الأخطر من ذلك، أن كثيرًا من المؤسسات والشركات الصغيرة والمتوسطة بدأت تُغلق أبوابها بسبب تعثر التحصيل، وامتناع العملاء عن الدفع، مما أدى إلى ارتفاع نسب البطالة، وتراجع النشاط التجاري، وانكماش السوق بشكل عام.
صحيح أننا لم نصل بعد إلى "الشلل الاقتصادي"، ولكننا نسير بسرعة نحو ذلك إن استمر الوضع على ما هو عليه. إن الاقتصاد لا ينمو في بيئة قانونية عاجزة، ولا يزدهر في ظل نظام تمويلي متهالك.
رابعًا: فقدان الثقة بالتشريعات
البنوك اليوم أصبحت أكثر تحفظًا في الإقراض، وشركات التسهيلات بدأت تُعيد النظر في نماذجها التمويلية، بل إن بعض الجهات أصبحت تطلب ضمانات غير منطقية لضمان السداد، أو ترفض التمويل من الأساس. أما التجار، فقد توقف كثير منهم عن البيع بالآجل، لأنهم يدركون أن الكمبيالة لم تعد تساوي شيئًا أمام مدين محصن قانونيًا من الحبس.
إن فقدان الثقة في أدوات الضمان القانوني لا يمس فقط الاقتصاد، بل يضرب الثقة في هيبة الدولة نفسها، ويُشعر المواطن أن القانون لا يحمي الحقوق بل يشرعن التهرب منها.
ما الحل؟ التوازن والتشريع الواعي
نحن لا ندعو للعودة إلى الحبس بلا ضوابط، ولكننا نؤكد أن أي تعديل قانوني يُفترض أن يأتي بمنظومة متكاملة من البدائل. ومنها مثلًا:
فرض قيود مالية على المدين الممتنع.
تفعيل "الإعدام المدني" مثل منع السفر، منع التوظيف، أو تعليق الرخص التجارية.
تتبّع الذمم المالية والمدفوعات إلكترونيًا بوسائل فعالة.
تفعيل شركات تحصيل مرخّصة تعمل ضمن الإطار القانوني.
الخاتمة: نداء لإعادة النظر
لقد حان الوقت لإعادة النظر في هذا القانون، أو على الأقل في آليات تطبيقه. لأن تركه على حاله لا يخدم سوى فئة قليلة من المتهربين، على حساب الآلاف من الدائنين الشرفاء، وعلى حساب مستقبل اقتصاد بأكمله.
فكما أن العدالة لا تكتمل دون رحمة، فهي أيضًا لا تكتمل دون قوة تنفيذية عادلة.
---
المحامية سونيا المعايطة
www.linkedin.com/in/sonia.lawyer