نبض البلد - يجب أن تأخذ الممكن، وتطالب بعد ذلك بالممكن، حتى تصل إلى الذي لم نتفق عليه. لا يجب أن تتوقف هنا، وإلا ستبقى الأمور هنا على هذا الحال. وبدأت المفاوضات، هذه كانت سياسة كيسنجر التي أقنع بها الدول العربية، حتى تحاول أن تحصل على حقوقك أو جزء منها. ونحن ما زلنا نفاوض إلى اليوم، منذ تلك الاتفاقية أو منذ أوسلو إلى اليوم. يُعتبر هنري كيسنجر ثعلب السياسة الأمريكية، ولعب على قضية توازنات القوى بين الدول. يجب أن تكون مستعدًا للأسوأ وتتوقعه، وتتعامل بمنهج المصلحة والواقع، وما يفرضه عليك تقبّله. لا صديق هناك ولن يكون، مصلحة دولتك هي العليا، وصديق اليوم من الممكن أن يكون عدو الغد.
ثباتك على الحق لا يعني بحال أنك ستنتصر اليوم، ولا يعني بحال أنك قد ترى أثر هذا الثبات، ولكن الثبات على الحق يعني الكثير لمن حولك، ويغير الكثير فيمن حولك، ويصنع تلك المعجزات التي ستحدث لاحقًا. الكل يراقب، حتى الجلاد، والسفاح، والقاتل، وذلك المجرم الذي يحمل السلاح.
قال كيسنجر: "لن تستطيع دولة التفاوض مع سبع دول دفعة واحدة." وهكذا وقعت الدول العربية، دولة خلف دولة، في فخ التفاوض مع الـيـهـود. هؤلاء الذين، بعد أن أنقذهم الله من فرعون وأغرقه أمام أعينهم، سألوا نبيهم أن يجعل لهم إلهًا يعبدونه غير الذي أنقذهم. وعليك أن تحاول التفاوض معهم دولة دولة، وما ستحققه من نتائج هو ورقة بيضاء فارغة. ورقة لا شيء على أرض الواقع. ولذلك وصلت معهم الولايات المتحدة، أكبر حليف لهم، إلى قناعة، كما فعل وايتكوف مع نتنياهو: "الاجتماع السبت ونريد صفقة"، وكما قيل لغيره: "وقّع يا ابن الكلب، وقّع، وإذا لم تُنفّذ لن تأخذ بنسًا ولا المساعدات."
وهذا كله نراه على أرض الواقع، هذه السياسة القائمة على هذا النوع من المصالح التي أصبحت مقدسة، والتحالفات التي تسعى إلى فرض السيطرة على الواقع، والتحكم بكل شيء. أما الكلام، والوعود، ومجلس الأمن، فهو كما قالت تاتشر: "لنا نحن العرب."
وفي يوم، عندما كانت الدول العربية متحدة، استطاعت أن تأخذ قرارًا أحدث الرعب للولايات المتحدة وحلفائها، فقد خفّضت إنتاج النفط بنسبة خمسة بالمئة شهريًا، وعاقبت الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها في حرب أكتوبر، وطالبت الكيان بالعودة إلى حدود السبعة وستين. وسعت بريطانيا إلى التنصل من التحالف مع الولايات المتحدة، وقطع الأسلحة عن الكيان، خوفًا من الموقف العربي، عندما كان هناك موقف عربي. السياسة هي فن المصلحة والواقع. عندما تُفرض عليك الظروف الانسحاب من فيتنام، تنسحب، حتى عندما لا تستطيع تحقيق نصر، عليك أن تنسحب، بغض النظر عن النتائج. وهكذا، حسب ما يرى هذا الثعلب، تستطيع أن تترك المستنقع قبل أن تغرق فيه.
وهنا أستذكر ما قامت به المقاومة الفيتنامية (الفيت كونغ). لقد ذكر كيسنجر في مذكراته أنه شعر بالإحباط واليأس، ووقعت الفرق الأمريكية المفاوضة في بئر عميق، لم يستطيعوا أن يفرضوا أو أن ينتزعوا من هؤلاء موقفًا ولا تنازلًا. كانت كل الحلول والطروحات التي تضعها الفرق الأمريكية المفاوضة على الطاولة، تُقابل بموقف ثابت صارم لا يقبل التنازل، ولا حتى التفكير بالتنازل. كان خطابهم: "يجب على الولايات المتحدة أن تقوم بـ..." يقول كيسنجر: "شعرنا بالنصر عندما قبلوا تغيير العبارة بـ 'يجدر بـ الولايات المتحدة القيام بـ...' " لقد تلاعبوا بنا نفسيًا وعقليًا.
يقول كيسنجر: "إن الصفات الطيبة (والكلام له، وهذه الصفات الطيبة رأيناها جيدًا في كل الدول التي تم احتلالها من قبلهم، ولن يكون آخرها غزة) التي كان يتحلى بها الأمريكان، كان يُقال لها إرادة خير وتسامح، هذه صفات تدعو لاحتقارها من قبلهم." كان طرحهم: "انسحاب كامل غير مشروط وسقوط الحكومة العميلة."
ومع هذا، هل تتراكم تلك التحركات الإيجابية في الكون، لتنمو مثل نبتة أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ هذا حقًا ما أؤمن به. نعم، لا يذهب الخير في الأرض، ولا الصمود والثبات على المبدأ، ولا مقاومة الظلم، ولا الانتصار للمظلوم، كل هذه لا تذهب سدى. لقد استطاعت السياسة الأمريكية النجاح في شق الصف العربي وخلق الصدع، وسعي كل دولة من الدول العربية للبحث عن مصالحها والتفاوض وحدها، والخوف من الآخر، والتنازلات التي قد يقدمها. فعندما كانوا يتفاوضون معًا، كانت هناك قوة، وكان من الممكن أن تحصل هذه الدول على بعض حقوقها، ولكن مع هذه الطريقة، ضاعت القوة، وضاعت الحقوق، وحصل الكيان على ما يريد.
لم تكن قوة الكيان يومًا هي العائق في التعامل معه، ولكن دائمًا هناك كلب أكبر يتولى حراسته. في البداية، كانت بريطانيا هي التي فرضت التقسيم، وقامت بتوزيع الجوائز والمكاسب والمقاعد، بناءً على: من يوافق يأخذ، ومن لا يوافق لا يأخذ. ولذلك أخذ البعض وحُرم البعض، في تلك التقسيمة التي قادتها بريطانيا من خلال وعد بلفور، والذي كان معاديًا للسامية، ولكن في هذه الخطوة، وتحقيقًا لمصلحة بريطانيا في إيجاد قوة متقدمة في العالم الإسلامي تمنع اتحاده، وتخلق حالة من الفرقة والخلاف فيه، وفي التخلص من هذه الفئة المكروهة محليًا، وهي الـيـهـود.
لم يكن الـيـهـود في يوم محل ترحيب في أوروبا، فقد كانوا محل كراهية وبُغض، وكانت أخلاقهم دائمًا قائمة على مصالحهم، ولا صديق لهم إلا تلك المصالح. فقد كانوا أقليات تتحكم بهم السلطات الفاسدة، والمال، والعصابات، وتتولى كل الأعمال القذرة، من الدعارة إلى التجارة إلى الربا، إلى عصابات تحمي هذه الفئة أو تلك الفئة. ولذلك لم يتكاثروا إلا بعد أن دخلوا ضمن روسيا، وشعروا بالأمن في ظل القيصر، حيث تم التعامل معهم على أنهم مواطنون، وبذلك تضاعفت أعدادهم أضعافًا في هذه الفترة، وأصبحوا مشكلة حقيقية.
لقد سمحت لهم بريطانيا بالاستيطان، وحمتهم بالقوة والسلاح، ومنحتهم كل شيء: السلاح، والدعم، والمال، والقرار الدولي، وحاربت أهل فلسطين، ومنعتهم من الحصول على السلاح، ولاحقتهم بالسجن، والنفي، والقتل، ومنع التجمع، وشيطنة مقاومة المحتل والثورات ضد البريطانيين، وضد التجمعات الـيـهـودية التي كانت تُفرض بالقوة على هذا البلد.
ولكن التاريخ يقول: إن صاحب الأرض، المرابط، الصابر، ينتصر في النهاية.
إبراهيم أبو حويله